هل تسمحون لي بالنجاة؟

تنزيل (6).jpg
حجم الخط

الكاتب: توفيق أبو شومر


 

لامني أحدهم لأنني (هربت) من غزة ولجأت إلى مصر وأنا في الثامنة والسبعين من عمري، وطالبني في رسالة خاصة بالكف عن انتقاد مشعلي الحرب وإلا سأعتبر عميلاً وعدواً!
قلتُ له: أقدم لك اعتذاري، ولكل من احتفظوا بصوري في هواتفهم المحمولة كي يلصقوها في الساعات الأولى لوفاتي، أعتذر لكم لأنني لم أمت حتى الآن!
أعتذر لمن اعتاد أن يلتقط لي الصور كلما شاهدته، وكان يود أن تكون هذه هي صورتي الفريدة والأخيرة في هاتفه المحمول ليلصق أسفل الصورة ألقاباً أكرهها: أستاذي، كان كاتباً ومفكراً وفيلسوفاً وأديباً وإعلامياً كبيراً!
أقدم اعتذاري لشاب لمح علامات الموت على وجهي الهزيل، رأى في تجاعيد وجهي تاريخ وفاةٍ قريباً، فامتشق هاتفه وأصر أن أقف إلى جواره بسرعة حتى تكون صورته إلى جواري هي الصورة الأحدث من كل الصور المعلبة، أعتذر له عندما التقيته في المرة الثانية، وددتُ أن أقول له: سامحني فقد خيَّبتُ ظنَّك ولم أمت، حتى اليوم، سرعان ما فهم الرسالة والتقط صورة ثانية ربما تكون هي الصورة المطلوبة، وقفت إلى جواره وضعت يدي على كتفه، ابتسمت كنتُ أودُّ أن أتذكر اسمه، لكنني فشلت، قلت له: «تحياتي أيها العزيز الغالي»!
أما الشابُ الكاتب الذي اعتاد أن ينشر صورته كل يوم مرات عديدة بملابس جديدة واقفاً وجالساً وخطيباً ومعلقاً وشاعراً وناثراً وسياسياً مرموقاً، ظنَّ أن صورته ستكون أجمل حين يقف إلى جوار من يرشحهم للموت القريب، فهو يحفظ تاريخ الصورة، وينشر الصورة الأقدم ثم الأحدث قبل الموت مع المناسبة!
أقدم اعتذاري أيضاً لأحد المنتمين إلى حزب فلسطيني، لأنني أطلتُ المكوث في صور هاتفه، وأشغلت شقاً كبيراً من ذاكرة هاتفه المحمول، فهو يحفظ كلاشيهات عديدة صنعها لي للاحتفال بمناسبة موتي!
عزيزي، احتملتُ في الشهر الأول من الحرب الصيام المفروض علي بحكم سني، كنتُ ألتزم حمية قاسية، ما أفقدني كيلوغرامات كثيرة من وزني وأفقدني توازني، فعدتُ لا أقوى على السير كما كنتُ أفعل قبل الشهر الأول شهر الكوارث!
هل جربتَ أن تكون أمنيتُك علبة محفوظة من الفول في اليوم الواحد، وعلبة أخرى من التونة تأكلها وأنت تسير بين الجموع؟
في الشهر الثاني اعتدتُ أن أركب عربات الحمير والخيول، وأن أحتمل الروائح المنبعثة من مؤخراتها، وأن ألتزم بلباسي الوحيد المملوء بالبقع، وأنام به في فراشي المتواضع في خيمتي لأن الماء أصبح شحيحاً لا يكفي إلا للشرب!
أصبح الاغتسال في الشهر الثالث بماء ساخن أمنية من الأماني، كنت أحاول أن اختصر جرعات الماء، حين أغسل ملابسي الداخلية، وأنشرها في مكان بعيد عن الأنظار!
أما في الشهر الرابع فقد جربت وأنا في الثامنة والسبعين من عمري أن أغفوَ في العراء في البرد الشديد، وأن أنام في خيمة مصنوعة من النايلون، تتكوم فوق سطحها دوائر من ماء المطر في كل دقيقة، وعليَّ أن أقوم من النوم في الساعة الثانية صباحاً لأرفع بمكنسةٍ أو عود خشبي دوائر الماء خشية أن يثقل ماء المطر على العمود فيُكسر، وما أن أنتهي حتى تتكوم دوائر جديدة، وأظل أطارد هذه الدوائر حتى السابعة صباحاً، غير عابئ بالبلل الذي يصيب ملابسي وفراش نومي، كنت أسمع صراخ الأطفال في ساحات مدرسة اللجوء، وأرى النساء في الخيم المجاورة لي وهن يرفعن بين أيديهن أبناءهن الصغار مضحيات بالفراش الغارق بمياه المطر ومجاري الوديان السوداء!
كنت أتمنى أن تكون بجانبي في الشهر الرابع من بدء الحرب لتأخذ بيدي وتخفف عني فيروس الرشح والزكام والسعال الشديد طوال الليل، ليتك كنت معي لترشدني إلى أفضل وسيلة للتخفيف من هذا السعال، مع العلم أن طعامي يخلو من البروتينات فهو من المعلبات فقط لا غير!
لأول مرة في حياتي قضيت شهراً ونصف الشهر وأنا لا أستطيع النوم من شدة السعال دون أن أشعر بالتحسن، حتى أنني صرت شبحاً، كثيرون من معارفي وحتى من أقاربي، عندما يرونني كانوا يفشلون في التعرف عليَّ، وما أكثر الذين كانوا يسألونني هل أنا هو أنا قبل أربعة شهور؟ مع العلم أن معظم السائلين من معارفي هم أنفسهم لم يعودوا يشبهون أنفسهم قبل أربعة شهور، غير أنهم حينما يرونني ينتعشون ويحسون بالصحة لأنني غادرتُ صورتي القديمة!
أيها الناقد واللائم اسمح لي أن أسألك: هل كنتَ أنتَ مناضلاً عسكرياً، أم مناضلاً اجتماعياً لأشاركك هذا النضال، أم أنك كنتَ مثلي في خيمة تختبئ من غارات الطائرات؟!
هل جربت في الشهر الخامس أن ترى علامات الاصفرار تغزو أظافرك وأنك أصبحت ثقيلاً مرهقاً طوال الوقت، وأن ما تملكه من نقود لن يكفي أفراد عائلتك شهراً جديداً، وأنك لا تستطيع أن تسحب جزءاً من رصيدك إلا بعد أن تغامر بالوقوف أمام أماكن الصراف الآلي ساعات طويلة؟!
هل جربت في الشهر السادس محاولة النوم نوماً متقطعاً إن استطعت حتى تظفر بحلم مُزعج مخيف، وعندما تستيقظ تُحس بالندم على أنك صحوت، فقد كان حلمك المزعج أفضل بكثير من واقعك الراهن؟!
هل رأيت وجه العجوز السبعينية ذات الظهر المحدودب، وهي تقود عربة حفيدها الصغير الذي فقد والديه وكل إخوته ونجا بأعجوبة من تحت الركام بعد أن فقد إحدى قدميه! تعتني به جدته بدلاً من أن يعتني بها؟!
كم كنتُ أتمنى أن تكون بجانبي لتجلب لي الغذاء والماء اللازم لشربي واغتسالي! وتُثني عليَّ لأنني انتقدتُ التهور والجهل المؤدي إلى أسوأ كوارث التاريخ!
أخيراً، ماذا لو كنتُ أنا والدَك؟!