النصر والهزيمة في العقل العربي ...

b4074a08395cccfa2439721cb44bffc8.jpg
حجم الخط

الكاتب: أكرم عطا الله


 

دائماً ما ينتصر العرب لذلك تبدو حياتنا سلسلة من الهزائم التي لا تنتهي.
هكذا الأمر ببساطة منتصرون دوماً، لهذا نحن أضعف الأمم وأقلها شأناً وحضوراً، وقد وفرت اللغة العربية الغنية بمفرداتها ما يكفي من أغطية المعارك ونهايات الهزائم بما يمكنها من قلب الحقائق وخصوصاً في عصر احتكار الرواية ووسائل الإعلام لدى النظم العربية لكن المهمة انتقلت إلى احتكار الإعلام الممول ليعيد إنتاج روايات النصر الغائب.
في رائعته المسرحية «ضيعة تشرين» وصف محمد الماغوط الكوميديا السوداء للحالة العربية «المنتصرة دوماً وأبداً» على لسان الفنان نهاد قلعي الذي جسد شخصية المختار أو حاكم الضيعة كحالة رمزية للزعيم العربي الذي قال: «إحنا منتصرين وإحنا مش عارفين لأن هدف العدو من الحرب الإطاحة بالمختار وباعتباره لم ينجح في الإطاحة به إذن نحن منتصرين».
هكذا يفسر العقل الطفولي العربي مجرى أحداث التاريخ، وهو قادر ببراعة على اختراع كل مسكنات اللغة لمعالجة سرطان الواقع، فهو عقل مغامر لم يبلغ سن الرشد السياسي ولا عمر المسؤولية الأخلاقية، ببساطة مستعد لتدمير البلاد من أجل الزعيم القائد أو الحزب القائد. ويعود ذلك لتركيبة المجتمعات العربية التي لم تدخل عصر السياسة بعد فهي مجتمعات قبلية عشائرية تلعب فيها شخصية شيخ العشيرة مركز الكون هزيمة أو نصراً، وتشتق منها المصطلحات بما يتناسب مع واقعها البدائي.
فمثلاً حين يموت الزعيم تنكشف الشعوب عندما يردد إعلامها مصطلح اليُتم، هكذا الأمر ببساطة وتلك أشبه بنكتة لدى العالم ومثلها الكثير.
بعد هزيمة حزيران كان البيان الأول الذي صدر من دمشق «لقد فشل العدو في أهدافه فقد كان يهدف للإطاحة بحزب البعث» وربما منها اشتق الماغوط الكوميديا السوداء في مسرحيته.
هكذا كان الأمر في غزة طوال فترة الحرب، أبنية يتم سحقها ومدنيون بالآلاف تتم إبادتهم ومدن تخرج عن الخدمة لكنّ مؤيدي حركة حماس يتلقفون جملة أن الحركة بخير وهي من يدير غزة، وتلك ربما استوقفتني لتعيد للذاكرة مفهوم العرب عن الانتصار وهو ما كان سكان غزة يتناولونه بتندر بعد كل حرب خلال السنوات الماضية من حروب لم تعرف غزة بطالتها، وكانت تعلن الانتصار لتلخص عجوز ذات مرة تلك الكوميديا قائلة: «كمان انتصار وبنخلص كلنا».
لم تخطئ حماس بمقارعتها لإسرائيل بل حافظت على جذوة الكفاح ومعادلة الصراع الطبيعية بين احتلال وشعب تحت الاحتلال، ولكنها لم تتقن هندسة الصراع فذهبت للحد الأقصى من المعادلة لتزيد النار تحت طبخة كانت تنضج على مهل لتحرقها وتحرق معها كل شيء، هكذا كان الأمر لكن الخطاب الأخير الذي ألقاه قائدها من الدوحة كأنه يشي بأن الحركة لم تتعلم بعد من تلك التجربة رغم حاجتها لمراجعات هائلة بعد هذا الزلزال شديد الفداحة تتلخص فيه أمنيات اللاجئين بالعودة لجباليا بدل العودة للمجدل وهكذا في باقي تفاصيل الحكاية.
عودة للعقل العربي المتخم بالانتصارات التي تتراكم لتصنع هزيمة جمعية لأمة تخجل من وصف معاركها، فضياع سيناء والضفة والقدس وغزة والجولان ليس أكثر من «نكسة» كأنها مسألة عابرة رغم أنها تستمر لما يقرب من ستة عقود كلفت الكثير من الدم والأرض، هكذا أطلق عليها العقل المهزوم داخلياً لتنتج ردة فعلها الغريزية المهانة الضد اللفظي لها في محاولة لخداع النفس للتغلب على واقعها، الفكر القومي سماها نكسة وعدواناً والإسلامي محنة وابتلاء واختباراً، كل ذلك للهروب من تسمية الهزيمة لأن في التسمية استحقاقاتها أولها محاكمة الحزب أو القوة المسيطرة وإن كان هذا الخداع الذاتي للنفس سبباً للهروب من البحث عن أسباب الهزائم، ولو كانت تلك المراجعات جزءا من العقل العربي وتهيئة عوامل النصر لما بقيت الأمة مهزومة تجتر شعارات وهم النصر المفقود.
وفي إطار ما يمارسه العقل العربي من خداع الإيغال في اختراع النصوص اللغوية تتسيد مقولات مثل «خسرنا المعركة ولم نخسر الحرب» أو «انتصرنا معنوياً» رغم أن النصر والهزيمة يقاسان بالأرقام لا بالكلام أو «الانتصار الأخلاقي» أو «فشلوا في إسقاط النظام» وهكذا يواسي العقل الطفولي واقعه السوداوي دون أن يسأل عن متخذ القرار ودكتاتورية الزعيم ومغامراته ومدى اعتباره لخسارة الشعب التي لا يأبه بها ولا خسارة الأرض فالأهم بقاء النظام.
في خطاب النصر للزعيم الراحل صدام حسين بعد أم المعارك وحصار العراق وتفتيشها وإهانتها كان رجل عراقي بين الحاضرين يبكي بمرارة وحين سألوه عن السبب قال: أبكي على أميركا سألوه لماذا ؟ قال: إذا كان هكذا حالنا ونحن انتصرنا فكيف حال هزيمتهم هؤلاء المساكين ؟.
إسرائيل دولة محتلة ولا بد من مقارعتها لكن سؤال حركات التحرر كيف يمكن ذلك دون أن نستدعي هزيمة ليس لدينا متسع لها بل تعيدنا للوراء ؟ التاريخ مليء بالتجارب، فقد تحررت الهند من امبراطورية لا تغيب عنها الشمس وكذلك جنوب إفريقيا فهل نقرأ درس التاريخ أم نستمر بادعاء الانتصارات ؟ لكن الأهم الآن أن الإبادة توقفت وهذا إنجاز.