الصدمة الثالثة

تنزيل (15).jpg
حجم الخط

الكاتب: عبد الغني سلامة

 


بعد يومين على هجمات 7 أكتوبر كتبتُ مقالي الأول بعنوان «الصدمة»؛ صدمة و»فرحة» الشعب الفلسطيني بعملية نوعية للمقاومة بهذا الحجم، وهذا القدر الكبير من الخسائر الإسرائيلية.. وصدمة إسرائيل من جرأة المقاتل الفلسطيني ومن الإهانة المنكرة التي لحقت بجيشها، ومن انهيار نظريات الأمن والردع التي طالما روّج لها إعلامها.
وبعد أربعة شهور على اندلاع العدوان كتبتُ مقالة ثانية بعنوان «الصدمة»، والتي تمثلت بسقوط عدد هائل جداً من الشهداء يفوق بأضعاف عدد من سقطوا في النكبة، وحجم الدمار الشامل الذي أصاب غزة، ونتائج العدوان وتداعياته على كافة الصعد.. وقد توقعت حينها أن سقوط عشرات آلاف الشهداء سبب كاف لإحداث صدمة، بحيث تجعلنا نعيد النظر بطريقة تفكيرنا ونظرتنا للأمور.
وها هي المقالة الثالثة بنفس العنوان، ليس إعجاباً به؛ بل لأن ما حدث وما زال يحدث هو بالفعل صدمة كبيرة، لكنها لم تُحدث فينا الأثر المتوقع، أو الدور المعهود للصدمة، وبينما للأسف أحدثت فعلها في إسرائيل (الدولة والمجتمع)، وقد تمكنت من امتصاصها بشكل نسبي، والتكيف معها، ونقلها إلى الطرف الآخر (نحن)، حيث ما زلنا متمسكين «بالثوابت» الفكرية والنظرية وطرائق التفكير ذاتها.
في الأشهر الأولى للعدوان كانت نسبة كبيرة من الفلسطينيين (خاصة من خارج فلسطين) تحت تأثير الصدمة من ناحية إيجابية: المعنويات مرتفعة، والآمال والتوقعات عالية جداً، مع رهان وصل إلى درجة اليقين بأن النصر متحقق عاجلاً وفي المدى المنظور (في غضون أشهر) وأن محور المقاومة سيتدخل، والشعوب العربية والإسلامية ستزحف إلى الحدود، وستُسقط أنظمتها «العميلة»، وحكومة الاحتلال ستنهار، والجيش يتلقى خسائر باهظة، ولن تتحمل إسرائيل خسائرها الاقتصادية، وشعوب العالم تتظاهر بالملايين وستجبر حكوماتها على نصرة «الحق» الفلسطيني، وستعاقب إسرائيل وسترغمها على كبح عدوانها.. وكل هذه العناوين كانت تغطي على خسائر غزة من البشر والبنيان والحاضر والمستقبل.. لذلك لم يعبأ بها أحد (على الأقل كما هو مفترض).
لا حاجة للتأكيد وسوق البراهين على أن كل ما سبق لم يتحقق منه شيء.. بل وللأسف العكس هو ما تحقق فعلياً: صار مقتل مائة فلسطيني يومياً خبراً عادياً، حتى زاد عدد الشهداء على الخمسين ألفاً، وتدمر 80% من القطاع.. وكل الأهداف التي أعلنت صارت أبعد، حتى أنها غابت تماماً عن صفقة التبادل وشروط وقف إطلاق النار، وصار مطلبنا الأهم إنهاء الحرب (وهذا المطلب يعني في حقيقة الأمر إيقاف المقاومة، لأن المقاومة في مفهومنا هي فقط العمل العسكري والحروب). وإذا لم يشكل ذلك كله صدمة، فيعني أننا أُصبنا بالتبلد والشلل.
هذا التبلد في علم النفس يسمى «الإنكار»، وفي ممارساتنا وطريقة تفكيرنا لإنكار أننا في مرحلة «إنكار» قمنا بترحيل تلك الوعود والأهداف إلى أجل غير مسمى، وبوعود غيبية وأدعية ونصوص دينية جاهزة. وعوّضنا عن الصدمة بخطاب بلاغي يتغنى بالانتصارات، وقد نسينا كلياً تلك الآمال التي علقناها في بداية الحرب، وتلك الأهداف التي رضينا بها مقابل كل تلك الخسائر، واعتبرناها «تضحية»، وثمناً مستحقاً للحرية والنصر وجلاء الاحتلال (التي لم يتحقق منها شيء).
استعراض مقاتلي «حماس» على المنصة أثناء تسليم «الأسيرات» الإسرائيليات، باللباس العسكري والسلاح والسيارات النظيفة.. هذا هو النصر، لأنه يعني أن «حماس» ما زالت موجودة، وهي التي ستحكم غزة.. هل هذا هو النصر الذي وُعدنا به؟! هل يستحق هذا «النصر» خسارة نحو مائتي ألف إنسان بين شهيد وجريح ومفقود؟
سأحاول بطريقة ثانية الإجابة عن سؤال: لماذا لم تحدث الصدمة؟
الإجابة تكمن في اللغة؛ سحر البيان، وجزالة الألفاظ، وقوة الخطابة، ونبرة الصوت، والشعارات الرنانة، وأثر الصورة «المنتقاة بعناية».. وهذه كلها ذات تأثيرات نفسية وعاطفية عميقة ودائمة، كافية لامتصاص أي صدمة، وهي أساس تركيبة العقل العربي، الذي نشأ مع الشعر ونما مع الخطابة، وتشكَّل من لغة الخطابات والشعارات والكلام الإنشائي.. وهي سبب أننا منذ ألف سنة نجتـر أنفسنا وننحدر من قاع إلى قاع.
اللغة لها قدرة مدهشة على الإقناع والتأثير، شريطة أن تكون منمقة، الشعار قادر على تشكيل وعنونة مرحلة تاريخية كاملة شريطة أن يكون مدهشاً وذا سجع.. انظر مثلاً كيف نستدعي أبياتاً من الشعر، أو مقولات رائجة، أو شعارات قديمة لشرح أي موقف جدي وخطير.. كيف نجعل الأدعية بديلاً عن الفعل الحقيقي.. كيف نستبدل التفكير العقلاني والتحليل الموضوعي بالعاطفة والتأثر بمعسول الكلام.
في خطابنا ستجد دوماً كلمات مثل: النصر، العزة، الكرامة، القوة.. لأننا نفتقدها بشدة.. ونكثر من استخدامها للتعويض عن هذا النقص..
خطاب القوة والعزة ليس خطأً بحد ذاته، بل هو مطلوب دوماً.. المشكلة أنه صار بديلاً عن البحث والتفكير التخطيط.  
العقل العربي مشغول دوماً بشتم الأعداء (أشبعتهم شتماً وفازوا بالإبل)، ومشغول بشيطنة الخصوم، والتفتيش عن أخطائهم وفضح سلبياتهم.. ومشغول بتصنيف الآخرين بين وطني وخائن وبين مؤمن وكافر وبين شجاع وجبان، ومجاهد ومتخاذل.. وعوضاً عن محاولة الفهم والبحث عن الحقيقة ننساق وراء انفعالاتنا العاطفية ومواقفنا المسبقة وأحقادنا على المختلفين معنا.  
هذا النهج من التفكير العاطفي والسطحي جعل نُصرة الشعوب العربية وتحركها عبارة عن «فزعات»، بلا أي مفعول.. وجعل نظرتنا للمعركة مع العدو كما لو أنها «طوشة».. فلم نؤسس لفعل حقيقي يمكن البناء عليه، صار كل فصيل يعتقد أن النضال والتاريخ الكفاحي بدأ معه، وسينتهي معه! صرنا نعتقد أن المقاومة هي فقط حمل السلاح والطخ.. وغيّبنا كل أدوات المقاومة بمفهومها الشامل الحضاري والإنساني.
تكفي أغنية، أو قصيدة، أو كلام إنشائي لخطيب مفوّه، أو مقالة شعبوية، أو مقولات مستنسخة مكررة لأن تفصلنا عن الواقع، وتبعدنا عن الحقيقة، وتمنعنا من فعل شيء جاد وملموس يمكن المراكمة عليه.. أعداؤنا أكثر من يفهم هذه العقلية، فيزودوننا بما يكفينا من مؤونة ومن تصريحات تشغلنا كثيراً، وتقودنا إلى حيث يشاؤون.  
وأصحاب الأجندات، وملوك الإعلام والفضائيات وحتى المؤثرون على وسائل التواصل يعرفون هذه العقلية أيضاً، ويصنعون من خلالها قطعان التابعين.
للأسف سنحتاج إلى زلزال بقوة 10 ريختر لعلّه يزيل الغشاوة عن أعيننا.