من المؤكد أن الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب، ليس هو الرئيس السابق جو بايدن، وربما حتى أنه ليس ما كان عليه في ولايته الرئاسية السابقة، وقد يكون الرجل صادقاً في رغبته في إحلال السلام في الشرق الأوسط، وهو قد صفق لنفسه مطولاً، حين رضخ بنيامين نتنياهو لمطلبه بوقف إطلاق النار، قبل دخوله البيت الأبيض، لكن ما هو ثابت فيما يخص السياسة الأميركية، الخارجية منها خاصة، أنها تعبر عن دولة مؤسسات، وليس عن أي دولة، بل عن الدولة الأعظم في العالم، والتي قادت العالم على مدار قرن مضى تقريباً، بالتحديد منذ الحرب العالمية الثانية، حتى الآن، وقد تخللت ذلك قيادتها للعالم بشكل ثنائي مع الاتحاد السوفياتي السابق خلال الحرب الباردة، ثم منفردة منذ نحو ثلاثة عقود ونصف.
أي أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة معروفة لجميع دول وشعوب العالم، ورغم أن هناك فروقات طفيفة بين حزبيها، ومن يمثلهما من الرؤساء، إلا أن الخطوط العامة تبقى ثابتة ولا تتغير، وتتوافق أو تنطبق مع ما يطلق عليه الأميركيون «المصالح الأميركية» ويقصدون بذلك السيطرة والهيمنة الأميركية على العالم بالجملة والتفاصيل، وفق منطق استعماري متواصل، وإن كان يتغير من شكل لآخر، والاستعمار الأميركي في حقيقته اختلف عن الاستعمار الأوروبي السابق، من حيث إنه لم يحكم المستعمرات بشكل صريح، لدرجة ضم بعض المستعمرات للدولة كما كان حال الهند مثلاً مع بريطانيا العظمى، أو الجزائر مع فرنسا الاستعمارية، لكن الاستعمار الأميركي، بقي يحقق نفس النتيجة، من خلال نشر القواعد العسكرية في مختلف أصقاع العالم، بالتدخل بإحداث الانقلابات وتنصيب أنظمة حكم تابعة أو موالية لها، من أميركا اللاتينية إلى شرق آسيا، مروراً بالشرق الأوسط.
وبالعودة إلى آخر نسخة من الصورة الأميركية ممثلة بثنائية ترامب - بايدن، ممثلي الحزبين الحاكمين في أميركا منذ نشأة الاتحاد الفدرالي، نلاحظ أن انقلاباً حدث ما بين الحزبين، اللذين يتفقان ويتوافقان على «المصلحة الأميركية» الخارجية بالسيطرة والهيمنة، ومضمون ذلك الانقلاب يتمثل في نزوع الديمقراطي للتورط في شن الحروب ولكن بالنيابة، كما فعل بايدن على الحدود الروسية الأوكرانية، وكما فعل مع الشرق الأوسط خلال العام الماضي، فيما يبدو أن الجمهوري ينزع نحو عقد الصفقات، أي حل النزاعات الإقليمية عبر عقد الاتفاقيات، وبالطبع ذلك لا يعني بتاتاً أن يستند عقد الصفقات للمنطق أو للعدل، حيث المهم هو تحقيق ما هو ثابت في السياسة الأميركية، التي تتميز فيما يخص الشرق الأوسط، بتطابق «مصالحها الحيوية» مع دعم إسرائيل، ليس بوصفها حليفاً وحسب، على شاكلة كوريا الجنوبية مثلا، بل كما لو كانت ولاية أميركية، نظراً لتأثير اللوبي الصهويني على الانتخابات الأميركية.
لن نحمل في هذا السياق ترامب في ولايته الثانية وزر ما جنت يداه في ولايته الأولى، وهو يسير على طريق عقد الصفقات، حين بدأ «يهندس» عبر صهره سيئ الصيت جاريد كوشنر، ويروج عبر طاقمه الصهيوني اليهودي، ممثلاً بالسفير ديفيد فريدمان، ونائب الرئيس مايك بنس، ووزير الخارجية مايك بومبيو، والتي انتهت بطرح ما سميت صفقة القرن، والتي كان جوهرها عقد صفقة سلام إقليمي تتجاوز الحق الفلسطيني في الدولة المستقلة، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأرض دولة فلسطين المحتلة، وحين وقفت السلطة الفلسطينية في وجه الصفقة، وساندتها بعض الدول العربية مثل الأردن، اضطر ترامب إلى إعادتها للأدراج، لكنه عوض عنها بعقد اتفاقيات أبراهام، مع البحرين والإمارات والمغرب، أي بتطبيع إقليمي جزئي، متجاوزاً شرط تحقيق السلام بين إسرائيل وفلسطين أولاً، وكان ذلك في آخر سني ولايته الأولى التي تخللتها قرارات أقل ما توصف به بأنها منافية للسلام الحقيقي، وتتوافق مع صفقات قطاع الطرق، التي تجري بين عصابات الجريمة المنظمة، من مثل الموافقة على ضم الجولان، ونقل السفارة الأميركية إلي القدس.
وحتى مع إيران بدأ ترامب ولايته السابقة بالتنصل من اتفاق دولي كانت أميركا أحد أطرافه مع كل من الأمم المتحدة، الاتحاد الروسي، وكل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا، أي لم تكن هي الطرف الوحيد المقابل لإيران، لكنها لم تحترم شركاءها المذكورين، كما أن ترامب بدأ ولايته السابقة بأخذ إتاوة البلطجة العالمية، حيث رأى أن أميركا تقوم بدور الشرطي البلطجي في العالم، وها هو يطمح لمكاسب مالية، مقابل أن يخص المملكة العربية الثرية وذات المكانة المحورية سياسياً ودينياً واقتصادياً في الشرق الأوسط، بزيارته الخارجية الأولى، وهذا يعني باختصار أن شريك ترامب هو المال، والمصلحة المرتبطة بجيبه، وليس بعقله أو قلبه، وأن المال عنده أهم من الأخلاق والقوانين والمبادئ.
ولنضع كل هذا وراء ظهورنا، ونقول، إن ترامب الثاني ليس هو ترامب الأول، كما كل الرؤساء الأميركيين الذين يتحررون في ولايتهم الثانية من اعتبارات الناخبين التي تضغط عليهم في الولاية الأولى، لأنهم يظلون مسكونين بالرغبة في الترشح للولاية الثانية والفوز بها والبقاء في البيت الأبيض، ونتأمل ما اتخذه من قرارات فور دخوله البيت الأبيض قبل نحو أسبوع، فقد سارع على الفور بإلغاء قرارات اتخذها سلفه، وكانت قرارات شكلية، لا قيمة فعليه لها، اتخذها بايدن من أجل الظفر بأصوات الناخبين من الأصول العربية والإسلامية، ونقصد القرارات الخاصة بملاحقة عدد قليل لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من الإرهابيين المستوطنين الإسرائيليين، كذلك تعليق شحن القنابل الثقيلة التي تصل لوزن طن من المتفجرات، والتي تلقي بها إسرائيل على المدنيين في قطاع غزة، كسلاح لحرب الإبادة، ثم وبعد تصريحات متناثرة أطلقها أفراد طاقمه الحالي الذي لا يقل عنه انحيازاً لمجرمي الحرب الإسرائيليين، ها هو يطلق بنفسه ما يمكن وصفه بأنه صمت دهراً ثم نطق كفراً.
وليس في عرف السياسة ما هو كفر أكثر من منطق الاستعمار، ولا من منطق الإبادة الجماعية، والدعوة لجرائم الحرب، والدعوة للتهجير إنما هي دعوة لممارسة وتنفيذ جريمة الحرب، وهذا ما قال به ترامب مؤخراً بصريح العبارة، وهو لم يشرع بعد، لا في السعي من أجل صفقة السلام الإقليمي، ولم ينتهِ بعد من رعاية تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، الذي تعهد معه مبعوثه للشرق الأوسط ستيف ويتكوف، بالبقاء في المنطقة لمراقبة ومتابعة تنفيذ الاتفاق، بما يعني أن ترامب في أحسن أحواله «يتخبط»، وهو المغرم بالأضواء منذ كان خارج حلبة السياسة، يقترب من حلبات المصارعة الأميركية الاستعراضية، التي تسمى رياضة الترفيه.
لم يتوقف ترامب ولا بأي شكل أمام تنصل إسرائيل من اتفاقها مع لبنان الذي تضمن انسحابها خلال 60 يوماً من البلدات الجنوبية التي احتلها، بما يعنيه ذلك من منع عودة سكان عشرات القرى اللبنانية لمنازلهم، ولا لتنصل إسرائيل من نص الاتفاق الذي يجبرها على السماح بعودة سكان مدينة غزة والشمال منذ صباح الأحد لمنازلهم المدمرة، وإجبار المدنيين على النزوح عن منازلهم هو جريمة حرب - كما أسلفنا -، لكن ترامب يجد الوقت ليفكر بمنطق الاستعمار ونزوع المتطرفين الإسرائيليين لمواصلة جريمة الحرب بتهجير سكان غزة إلى مصر والأردن.
ويقول ترامب ذلك في الوقت الذي لم تنبس فيه إدارته ببنت شفة حول ما يجري من جريمة حرب في الضفة الغربية، وكأن الحرب الإسرائيلية الجارية على جنين ونابلس وطولكرم والخليل ورام الله، ليست حرباً دموية، يجري خلالها قتل المدنيين، وتدمير المستشفيات والبنى التحتية، ولعل مشهد تهجير 3000 عائلة من مخيم جنين، يكشف تماماً، أن حرب الإبادة ما زالت مستمرة وتنتقل من غزة إلى الضفة، وما يحدث في جنين اليوم حدث في جباليا أو بيت حانون في الأمس.
وقد سارع إيتمار بن غفير وبتسئليل سموتريتش لمباركة تصريح ترامب، بمطالبة حكومة نتنياهو بتنفيذ جريمة الحرب التي لم تنفذ خلال حرب الإبادة، ولكن بعدها، أي بعد أن أحالت إسرائيل قطاع غزة لأرض غير قابلة للحياة، بعد تدمير المنازل والمستشفيات والمدارس والبنية التحتية، ولكل هذا، ولأن نتنياهو يعرف حدود ترامب جيداً، وهو لم يلتقه بعد، فهو يؤكد من أجل الإبقاء على ائتلاف حرب الإبادة قائماً، أنه ينسق ما يخص اتفاق وقف النار في لبنان مع أميركا، وأنه يراهن على إدارة ترامب لمتابعة طريقه في إعادة ترتيب الشرق الأوسط وفق الإرادة الإسرائيلية، والفكرة تشبه فكرة نقل إسرائيل للتمتع بالحكم الذاتي في كاليفورنيا، وترامب بما قاله عن تهجير سكان غزة يكمل منظومته السياسية التي تكاد تكون هذياناً سياسياً، حول ضم قناة بنما وكندا وغرينلاند للإمبراطورية الأميركية.