صرخة خبز المعلمين

ريما
حجم الخط

بعض التحركات تأتي كهجوم البخار المضغوط في الطنجرة، فلا يستطيع الغطاء إعادة البخار الساخن ولا يستطيع تخفيفه أو ترويضه، فقد فاض البخار وفقد الغطاء السيطرة على ما بداخله، لدى خروج العملاق من القمقم.

حراك المعلمين الاجتماعي انطلق بعد المماطلات الحكومية بدفع ما التزمت به العام 2013 لاتحادهم، فيما زادت رواتب قطاعات من الموظفين: الأطباء والمهندسين والمرافقين وغيرهم، بنسب اعتبرها المعلمون فلكية قياسا بالزيادة التي وُعدوا بها ولم يقبضوها، وهو ما رفع درجة حرارة الظلم والتمييز، فما معنى وجود وسريان أكثر من سلَّم ونظام مطبَق بذات القطاع، وما معنى أن تكون الفئة مفتوحة أمام البعض ومغلقة أمام البعض، وما معنى أن يتلقى الموظف العسكري مئة شيكل عن الزوجة ويتلقى الموظف المدني ستين شيكلا..! لا أحد يفهم.. يوجه الحراك رسائل واضحة ومقروءة منذ أن حرق جميع الخطوات والمراحل التي يمر بها الإضراب عادة، ابتدأ الإضراب من نقطة النهاية.

يقول المعلمون دون مواربة إنهم ذاهبون للإضراب دون تردد، نقطة البداية هي نقطة النهاية..لا حاجة إلى مقدمات بعد التجارب السابقة، المعلمون يقولون إنه لم يعد بالإمكان تسويق الذرائع التي ووجهوا بها سابقا لتبرير التملص أو تأجيل الإيفاء بالوعود والاتفاقات، كما بدأت الفزاعات المختلفة تُنثَرُ بهدف إحباط التحركات وإحاطتها بالشبهات والتهويمات، لتفقد بريقها ومصداقيتها.

بمعنى أن قوائم الأولويات الوطنية الفلسطينية قد فقدت مفعولها في إقناعهم وفي التأثير على إرادتهم. لقد عاد المعلمون إلى مدارسهم دون تحقيق مطالبهم العام 1998 باسم الأولويات، وعادوا بسبب الوعود في العام 2013، وبالنتيجة، "لا يلدغ المعلم من ذات الجحور مرتين". 

  السهم الأقوى الذي وجهه قطاع المعلمين كان لرئيس اتحادهم بشكل مباشر، دون أن يخفي الرسائل غير المباشرة لباقي النقابات والاتحادات الممثلة لمصالح القطاعات الاجتماعية الأخرى، ما يتطلب التوجه نحو تنظيم انتخابات حقيقية تمثيلية وليست صورية.

لقد تمرَّد المعلمون على أمانة اتحادهم لأنها خذلتهم  ووقعت اتفاقا دون التشاور معهم. فالنقابة التي من المفترض أنها تمثل وتحمل مطالب المعلمين عنهم ونزلت بسقوف مطالبهم، وفضَّلت عليهم مصالحها السياسية والفئوية، فابتعدت عنها القاعدة وأصبحت واجهة سياسية.

وفي الاختبار الأخير، لم تستطع إحراز المكاسب على الصعيد النقابي والمطلبي ما يفتح الباب أمام تشكيل نقابات موازية، لإضرارها بمصالح القطاع الذي تمثله، كما ألحقت الأذى بنفسها كأداة موحدة لقطاع المعلمين.

استخفت الحكومة بمطالب المعلمين، ويبدو أنها لا تعير انتباهاً للفجوة المتزايد اتساعها مع مكونات الحركات الاجتماعية والتحركات المطلبية، ولا تلحظ أن الأداء والإجراءات الحكومية توحي بما يشبه الأحكام العرفية دون إعلان، وكأنها لا تعرف أن الكرات تعود وتستقر في ملعبها، في الوقت الذي تعدّ فيه فلسطين تقاريرها الموازية حول انضمامها المدوّي للعهدين الدوليين حول الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

لم يعد بالإمكان حل الأزمة بالأساليب البيروقراطية ومن خلف المكاتب، ولم يعد بمقدور المجتمع احتمال اعتماد سياسة إدارة الظهر للمطالب العادلة أو اللجوء إلى كسر إرادة المعلمين، ولم يعد ممكنا إدارة التحركات كما كان الوضع عليه قبل عقدين من الزمان، فقد انتزعت الحركة الجماهيرية حقوقا لها بنضالها، وليس من السهل التراجع عنها أو إنكارها عليها، ولن تحل الأزمة سياسة تقطير الحقوق.

لقد أصبح الجلوس الفوري إلى طاولة المفاوضات مع المعلمين والتحاور معهم بجدية ومسؤولية حول أهم مطالبهم؛ أولوية لا تحتمل التسويف والمماطلة، بهدف الوصول إلى الحد الأدنى المقبول من جماهير المعلمين وبما يصون كرامتهم ويحفظ مستقبل تخريج جيل منتمٍ لبلده ويسهم في استكمال بناء مؤسسات الدولة المستقبلية، وخاصة أن ما تسرّب من حلول لا يلبي الحد الأدنى من المطالب.