أحيانا يقف الفرد مندهشا لما يسمع ما يصدر عن بعض المسؤولين السياسيين من تصريحات، صحيح أن الفصائل الفلسطينية هي نتاج ثورة تحدت خصما على درجة من الشراسة ورفعت شعارات كبيرة في مسيرتها كي تتمكن من تحشيد واستقطاب المقاتلين من أبناء شعبها هذا كان جزءا من إدارة المعركة ولكن إدارة السياسة شيء آخر.
فللسياسة منطقها وإدارة الشعوب لا تخضع للشعار، ففي الفترة الأخيرة باتت تلقي التصريحات بلا حساب جعلت البسطاء يتساءلون بخوف والعارفين يتساءلون بسخرية عما يصدر من بعض المسؤولين مما تنقله الصحافة.
ماذا يعني أن المصالحة لن تتم على برنامج السلطة ومنظمة التحرير؟ وكيف يمكن فهم أن قوى تحاول التصالح في إطار السلطة على برنامج خارج برنامج السلطة؟ منطق الأشياء أن هدف المصالحة النهائي هو إجراء الانتخابات وتوزيع السلطة بمؤسساتها وهيئاتها وأموالها التي تقوم إسرائيل بتحويلها فهل يتم التفاوض في الحوارات العبثية بين العواصم على شيء آخر غير السلطة، ولتلك هويتها والتزاماتها وبرنامجها والذي إن تراجعت عنه يؤدي إلى حلها وبالتالي لا حاجة لحوارات زائدة ليصبح من المنطق القول إن تتفاوض الفصائل إما على بقاء السلطة أو حلها، وإذا تم الاتفاق على بقائها فهي كما هي بالتزاماتها لمن أراد أن يكون جزءا منها أو الدفع باتجاه حلها ببرنامج آخر ففي ذلك من المعقولية السياسية أما غير ذلك فليس له علاقة بالمنطق.
وفي تصريح آخر يصدر عن مسؤول آخر من حركة فتح يعلن فيه أن السلطة ستستعيد غزة بالقوة ليس السؤال هنا عن تزامن التصريح مع محاولات لم يعلن فشلها حتى اللحظة وهي ستفشل، محاولات ولقاءات لإنجاز تقدم في ملف المصالحة بل مدى منطقية وقدرة حركة فتح والسلطة التي استسلمت وتركت غزة وأهلها لحركة حماس على تنفيذ هذا التهديد والذي جميعنا يعرف أن القدرة صفرية في هذه الحالة فما علاقة ذلك بالمنطق السياسي؟ مسؤول آخر من حركة حماس بعد كل هذه التجربة الطويلة والصراع المرير والبؤس يقول، «لا انتخابات قبل أن تحكم حركته الضفة الغربية فالحركة لم تعط فرصة للحكم وبعد أن تحكم الحركة الضفة يمكن لها أن توافق على إجراء الانتخابات» المعطلة بقوة السلاح بعد أن انتهت الولاية منذ أكثر من ست سنوات، إذن علينا أن ننتظر أن تحكم «حماس» الضفة فأي منطق في هذا؟.
مسؤول آخر من حركة فتح يدعو الشعب لانتظار قرارات صعبة وحاسمة ستؤدي إلى وقف الرواتب والأمر هنا يتعلق بإسرائيل كأن السلطة على وشك اتخاذ إجراءات ضد إسرائيل التي باتت تعرف أن الفلسطينيين في كمين يصعب الخروج منه وأن التهديدات باتخاذ إجراءات بحقها باتت لغة مكررة لم يعد الإسرائيليون يأبهون بها لكثرة ما رددها مسؤولون فلسطينيون.
فالتهديد فقد بريقه ليس فقط لأن الفلسطينيين لا يستطيعون تنفيذه بل لأن الإسرائيلي الذي قام بهندسة الاتفاقيات بما لا يسمح للفلسطيني بالتراجع عن بنودها بالجزئيات وفقط يمكن التهديد هنا بالكليات أي بحل السلطة ويبدو منطق هذه التصريحات باتخاذ إجراءات تشبه تماما منطق حركة حماس التي تتفاوض مع السلطة على برنامج غير السلطة فأي منطق في التهديد ضد إسرائيل مع بقاء السلطة؟ كثير من التصريحات وإن كانت تعكس أزمتنا الشاملة باعتبار ان ما يصدر تعبير عن مأزق ربما الأسوأ منذ انطلاق الثورة الفلسطينية حيث الشلل الذي يصيب المؤسسات الفلسطينية والسياسة الفلسطينية التي تبدو كأنها فقدت كل أدواتها لأن الإسرائيلي تمكن من سحب رصيد خياراتها لكن الأزمة ليست هنا فقط بل باتت فيما يصدر عن مسؤولين من أحاديث مكررة بعيدة عن الواقع أحيانا ترفع سقف أمل البسطاء كما خدعة المصالحة وأحيانا تبدو مخيفة لهم والحقيقة أن ما يصدر يعبر عن حالة فقدان للتوازن لأن إسرائيل تمكنت بنجاح من تدويخهم كما قال شمعون بيريس بعيد اتفاق أوسلو للرئيس الفرنسي متيران والذي نقلها للكاتب الكبير محمد حسنين هيكل.
لقد عمل الإسرائيلي بكل هدوء وأعد لنا ما استطاع من قوة ورباط خيل ليس هنا المقصود القوة العسكرية فقط بل ثورة التفكير وقوة العقل ومراكز الدراسات وبالتخطيط المنظم حتى بات يتلاعب بنا جميعا، ومن يعتقد أن هذا الانقسام الذي يتراشق المسؤولون أحاديث إنهائه بشكل يدعو للحزن من مستوى ما يسمع من يعتقد أنه تم بعيدا عن التفكير الإسرائيلي فهو مخطئ، من يتابع مراكز الدراسات وأهداف إسرائيل يدرك تماما أن مسألة فصل غزة عن الضفة باتت الشغل الشاغل لكل مؤسساتها منذ ثمانينيات القرن الماضي .. ويدرك أيضا أن هذا الانقسام لا يمكن أن ينتهي.
لكن المشكلة في التصريحات الأخيرة لبعض المسؤولين تنتمي للامعقول لأنها لا تحمل أي منطق سياسي يليق بسياسيين بل هي أقرب لمنطق بهجت الأباصيري في مسرحية مدرسة المشاغبين تعاني من انفصال تام عن واقع لا يدار بهذا الشكل، واقع بحاجة إلى نقاش سياسي أكثر عمقا من هذا المستوى من التسطيح الذي نسمعه فالأمر جد معقد ولا يحتمل البراءة التي أجاب بها مرسي الزيناتي حين اعتقد أنه قدم إجابة عن سؤال ما هو المنطق.
خلال الأيام الماضية عقدت الفصائل في غزة لقاءات مع مراسلي وسائل الإعلام المحلية والأجنبية حيث تخلى الصحافيون عن أدوارهم المهنية وتحدثوا كمواطنين أودت بهم سياسات الفصائل نحو هذا الوضع وعلقتهم على شجرة شعاراتها ولا زالت تكرر نفس الحديث المنفصل عن الواقع الغارق في البؤس وتتسع الهوة أكثر بينها وبين الشعب لأن حجم الإنجاز على الأرض معاكس تماما لحجم الشعار .. صحيح أن الإسرائيلي عمل على أن يفقد الشعب ثقته بالفصائل ولكنها لم تقصر في مساعدة الإسرائيلي في تقديم صورة سلبية عن نفسها، لغة الصحافيين كانت قاسية على الفصائل كأنها تقول بلسان واحد «إلى أين أوصلتمونا»؟ طالبوهم بمراجعة السياسات وهم يعرفون ألا أحد يراجع لأن كل منهم يعتقد أنه يملك جادة الصواب وإن كان هذا الصواب يشبه إجابات طلاب مادة المنطق في «مدرسة المشاغبين»