يُعتبر المسجد العُمري من أقدم المساجد وأعرقها في قطاع غزة، تم تأسيسه في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو ثالث أكبر مساجد فلسطين بعد المسجد الأقصى ومسجد أحمد باشا الجزار.
نشأته وأصوله:
مرّ المسجد العُمري على ديانات عديدة في مدينة غزة، بدأت بالوثنية، حيث كان المسجد قبل أكثر من ألفي عام من أكبر معابد الوثنيين، فقد كانت غزة آخر المدن الفلسطينية والشامية تمسكًا بالوثنية، فهو عبارة عن معبد بقلاع متينة تزيد مساحته على 70 ألف متر مربع، وكان نصب ما يعتقدونه الإله "زيوس" مكان مئذنته الحالية، واحتضن المعبد بين زواياه البوابة الرئيسية لمدينة غزة.
وكان المسيحيون بغزة يعتنقون دينهم بشكل سري، نظرًا لما كانوا يواجهونه من اضطهاد وعمليات إعدام بشعة بحقهم من قبل الوثنيين، ما أدى للجوء القديس الفلسطيني الأول "هيلاريون" إلى قبرص وتوفي هناك، وخلفه الراهب "بريفيريوس" وتم تعيينه راهبًا لمسيحيي غزة، إلا أنه لاقى ممانعة لدخولها، وهو ما تزامن مع فترة جفاف وجوع شديد عمّت المدينة لأكثر من 6 شهور، اعتبرها بعضهم عقابًا ربانيًا.
وهو ما جعل الوثنيين يتوجهون لبريفوريوس ليدعو الله أن يحل تلك الأزمة، فاستضافوه في المعقد، وحينما رُفعت عنهم الغُمة طردوه ولاحقوه بتهمة التخطيط مع ربه للتشكيك في عبادة آلهتهم، فذهب للقسطنطينية يشكون إلى "هيلانا" زوجة الإمبراطور الروماني "ثيودوريوس الأول" ما يعانيه المسيحيون من اضطهاد وتعذيب من الوثنيين بمساعدة الوالي الروماني على غزة "إيلاريوس" الذي سمح بتماديهم مقابل رشى يدفعونها له.
ومن جانبها، وعدت "هيلانا" بروفوريوس بأن تضع حدًا للوثنيين بغزة، ولحاكمها الفاسد، عقب ولادتها لمولودها الأول الذي أصبح فيما بعد إمبراطور الدولة البيزنطية "ثيودوريوس الثاني"، حيث انطلق عقبها أسطول من جيش الروم لتحرير مدينة غزة من الوثنية، بأمر من زوجها "ثيودوريوس الأول"، ونفّذ مذبحة بحق الوثنيين سقط على إثرها أكثر من 10 آلاف شخص، وفيما بعد أمرت بدفن الصنم "زيوس" تحت الأرض، وتحويل المعبد الوثني لكنيسة سُميت باسمها كنيسة "أفنوكسيا"، وذلك في القرن الخامس الميلادي، وأعلن رسميًا انهيار دولة الوثنيين بغزة واعتبرت المسيحية الدين الرسمي لها.
تحويل الكنيسة إلى مسجد:
تُعتبر غزة من أوائل المدن التي دخلها المسلمون، وذلك عام 635 ميلادي، بقيادة الصحابي عمرو بن العاص، في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، حيث اعتنق أغلبية سكان المدينة الدين الإسلامي، وكان أول ما قدموه للمسلمين أنهم طالبوا بتحويل أكبر كنائس قطاع غزة وهي كنيسة "أفنوكسيا" إلى مسجد لتصبح "الجامع العمري الكبير".
إلا أنه أثناء الحملات الصليبية على قطاع غزة، تم تدمير الجامع العمري الكبير وأنشأت على أنقاضه كنيسة القديس يوحنا عام 1149 ميلادية، وبقيت قائمة حتى أعاد صلاح الدين الأيوبي بنائه مجددًا بعد انتصاره على الصليبيين عام 1187.
وبقي المسجد على حاله حتى أواخر القرن الثالث عشر الميلادي في عهد المماليك، حينما خضع لعدة إصلاحات وتجديدات معمارية، إلا أنه تم هدمه بشكل كامل على يد المغول، ثم أعاد المماليك بناءه مجددًا وتوسيعه بعد عدة سنوات.
وتم بناء أول مئذنة للمسجد في العهد المملوكي وجاءت التوقيعات على المسجد تحمل اسم الناصر قلاوون وقايتباي والخليفة العباسي المستعين بالله الذين تتراوح فترة حكمهم بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر الميلادي، إضافة إلى توقيع موسى باشا الوالي العثماني على غزة عام 1663.
وخلال عام 1033 أصاب غزة زلزال ألحق ضررًا كبيرًا بالمسجد وتعذر إصلاحه، ما أسفر إلى تحويل المنطقة المتضررة إلى شارع يفصل بين البناء القديم والمنطقة التي تم توسيعها والتي تحولت فيما بعد لجامع أطلق عليه "كاتب ولاية"، ومع دخول فلسطين تحت حكم الدولة العثمانية أعيد ترميم المسجد وتوسيع إيواناته وتجديد الأبواب والنوافذ والمحراب والمنبر، وبناء صهريج لكافة مياه الأمطار للشرب والوضوء.
وخلال الحرب العالمية الأولى تم تدمير قسم كبير من المسجد وسقطت مئذنته، على إثر قصف الطائرات البريطانية، إلا أن الدولة العثمانية اهتمت بإعادة ترميم المسجد العمري، وأعادت إعماره بشكل كامل وجدد المجلس الإسلامي الأعلى تصميمه عام 1926 مما أعاد له رونقه القديم.
تدمير المسجد خلال حرب الإبادة على قطاع غزة عام 2023:
تعرض المسجد العُمري لقصف الطيران الحربي الصهيوني الحاقد في الثامن من ديسمبر 2023، ما أدى إلى تدميره بشكل شبه كلي.
وفي حوار خاص لوكالة "خبر" الفلسطينية، أفاد أحد المواطنين بأنه رغم الدمار الكبير الذي لحق بالمسجد إلا أنه يتم رفع الآذان وإقامة صلاة الجماعة على أنقاض المسجد المُدمر بفعل آلة الحقد الصهيونية التي استهدفت وسط البلدة القديمة بمدينة غزة.
وخلال شهر رمضان المبارك بشكل خاص، أشار المواطن "ن.س" إلى أنه يتم قراءة القرآن الكريم خلال الشهر الفضيل في الجزء المتبقي من المسجد الكبير، وخاصة بعد أن تم استهدافه للمرة الثانية بتاريخ 6 أبريل 2024، فهو المكان المُفضل لتجمع سكان المنطقة للصلاة، ويخصص المواطنون الأيام الأخيرة من شهر رمضان لتلاوة القرآن الكريم والصلاة داخل القسم المتبقي من المسجد.
وذكر المواطن "م.ر" أن آلة الحقد الصهيونية لم تستثن بيوت الله سواء المساجد أو الكنائس بمدينة غزة، فقد استهدف الاحتلال المساجد والكنائس كما استهدفت المستشفيات والمقرات الحكومية التي تقوم بخدمة المواطنين على مدار الساعة.
وأضاف أحد المهندسين القائمين على إعادة ترميم المسجد عقب حرب الإبادة في قطاع غزة، أن جمعية فلسطين الغد للتنمية المجتمعية تقوم حاليًا ببناء مُصلى بمساحة 400 متر مربع، مع دخول شهر رمضان المبارك، بهدف تسهيل إحياء الشعائر الدينية خلال الشهر الفضيل.
وختامًا، رُغم الدمار الهائل الذي أصاب أبرز المعالم الإسلامية الأثرية إلا أنه سيبقى معلمًا وتحفة معمارية إسلامية تُزين مدينة غزة وسيبقى تاريخها شامخًا رغم آلات الحقد الصهيونية.













