بالرغم من أنني بت عديم الاهتمام بالسياسة بالرغم من عملي الصحافي والأكاديمي قرابة أربعة عقود من الزمان، الا أن ما لمسته من كذب وتزوير وتحريض من وسائل الإعلام المختلفة خاصة الفضائيات جعني زاهداً في متابعة الأحداث السياسية.
وازدادت هذه الحالة لدي منذ بدء حالة الفوضى في الوطن العربي بهدف إعادة رسم خريطة جديدة للوطن العربي وفق خريطة الشرق الأوسط الجديد واعتماداً على مبدأ تقسيم المقسم والتي أسماها أبناء جلدتنا خاصة من المطبلين وراقصي الحبال زوراً وبهتاناً "الربيع العربي" وهو لعمري ليس ربيعاً وليس عربياً بل هو شتاء مظلم قاتم نعيش حلقاته الواحدة تلو الأخرى والتي كان آخرها تدمير قطاع غزة والعمل على قدم وساق لتهجير سكانه.
وبالرغم من زهدي الشديد في السياسة الا أن ما يتعرض له شعبنا من قتل وتشريد في ظل صمت عريب مريب وتخاذل إسلامي وتآمر دولي دفعني لمتابعة بعض الفضائيات لمتابعة أخبار المجازر والقتل وتدمير المدمر الذي تقوم به آلة القمع الإسرائيلية.
وبالرغم من التغطية الإعلامية المميزة للقتل والتشريد والموت الذي يتعرض له شعبنا والذي تغطيه بعض الفضائيات بشكل لافت الا أن البرامج الأخرى التي تبثها صباح مساء والتي تستضيف فيها شخصيات حزبية محسوبة على فصيل بعينه أو شخصيات معينة تشكل أبواقاً لما تمليه عليهم تلك الفضائيات بشكل مباشر أو غير مباشر.
وقد استوفتني إحدى الشخصيات من عبدة الأحزاب أو عبدة الهبات والنقود والهدايا -وهذا أمر لا يعلمه الا الله سبحانه وتعالى- والتي تحدثت مراراً وتكراراً من على إحدى تلك الفضائيات والتي يبدو من استضافتها المستمرة له على تلك الفضائية أن شعبنا فقير في المحللين العباقرة من أمثاله عن إجبار العدو على الانسحاب من محور "نتساريم"، حتى أنها صورت هذا الانسحاب عملاً وإنجازاً لم يتحقق منذ أيام حرب البسوس من كثرة ما تحدث عنه. وقد يتوهم أو يعتقد من يسمع هذا البوق ممن لا يعرف جغرافية قطاع غزة وهو يتحدث عن ذلك بأن محور نتساريم 100 كيلو متر وأن دبابات الاحتلال انسحبت هذه المسافة ومن الصعوبة بمكان العودة اليها وهذا لعمري كذبة كبيرة. فمن يعرف جغرافية قطاع غزة والذي لا تزيد مساحته على 365 كم مربع يعرف زيف ما يكرره بعض هؤلاء ممن تستضيفهم تلك الفضائيات.
وبحكم كوني من سكان مدينة الزهراء وهي جزء رئيسي في ما يعرف بمحور نتساريم كنت أدرك كذب ومبالغة ما يزعمه ذلك البوق الذي تحدث باستفاضة عن هذا الانتصار، ولكن الواقع يخالف ما يصوره ذلك البوق، فدبابات الاحتلال كما يعرف كل من يعرف طبيعة المنطقة تراجعت بضع مئات الأمتار الى الشرق من صلاح الدين، وهذه المسافة بدرك من يفهم بأبجديات العلوم الجغرافية والعسكرية لا تعد إنجازاً عسكريا، ولعل الدليل الحي على ذلك ان دبابات الاحتلال عادت الى هذا المحور منذ بدء عدوانها على غزة مجدداً ولم يستغرق الأمر سوى دقائق بسيطة لتقطع بذلك الطريق الواصل بين شمال القطاع وجنوبه عبر شارع صلاح الدين وهو الشريان الرئيسي في قطاع غزة، ولم يتبق الا شارع الرشيد في هذه المحور والذي لا تبعد عنه دبابات الاحتلال الان 1500 متر فقط.
ويخرج علينا بوق آخر ليهنئ قادة أحد الأحزاب باستشهاد أبنائهم وكأن حوالي 50 ألف شهيد ارتقوا في هذه الحرب هم مجرد أرقام لا قيمة لها في ذهنية ذلك البوق الذي كرر مرارا وتكراراً سقوط قادة ذلك الحزب وقد نسى أو تناسى أن حركة فتح والجبهتين الشعبية والديمقراطية وجميع فصائل العمل الوطني قدمت معظم قادتها على مذبح الحرية والكرامة.
وقبل ذلك أتحفنا أحد أبواق بحديثه عن العودة الأولى المظفرة لأبناء شعبنا إلى منازلهم المدمرة، واعتبر تلك العودة الأولى منذ حوالي ثمانية عقود بينما قلل من عودة نصف مليون من فلسطيني الشتات الى أبراج ومنازل أعدت لاستقبالهم، كما تجاهل عودة مبعدي مرج الزهور ومن بذل جهوداً مضية لتحقيق عودتهم.
أبواق كثيرة تصدع رؤوسنا بأحاديثها وتحليلاتها المبرمجة العقيمة التي تمزج فيها تلك الفضائيات السم بالعسل لهدف في نفس يعقوب التي تتحدث ان كثيرا عن الانكسار وأن البعض عصي عن الانكسار أما البقية الذين يزيدون على مليون نسمة فسواء ذبحوا أو كسروا فهذا ليس من الأهمية بمكان.
يستحضرني في هذا المقام بعد أن اضطررت الى النزوح الى خانيونس جنوب القطاع حديثي مع شقيقي الشهيد بإذن الله الدكتور محمد إبراهيم حماد "أبو مهند" الذي رفض النزوح وكانت ضريبة ذلك استشهاده وابنه البكر وتعرض باقي الأسرة للحرق بدرجات متفاوتة عندما سألته عما تبثه فضائية كبيرة عن أحداث في مخيم جباليا فقال لي كل ذلك كذب ودجل.. لا تصدق هذه الفضائية.
رحم الله أبو مهند عرف الحقيقة مبكراً كما يعرفها جميع أبناء شعبنا الصابر المرابط الذين باتوا مجرد أرقام من وجهة نظر أبواق تلك الفضائيات...وللحديث بقية.