الأسبوع الماضي كان أسبوع المعلّمين: في الشارع وفي الحافلة وفي البيت وعلى صفحات التواصل الاجتماعي وفي المدن والقرى وفي العاصمة: رام الله. ربما لم يتذكر أحد قول الشاعر أحمد شوقي: قم للمعلم وفِّهِ التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا فحتى المعلمون كانوا ناقمين على وظيفتهم، ولا أدري إن فطنوا إلى رد إبراهيم طوقان على شوقي: شوقي يقول وما درى بمصيبتي قم للمعلم وفِّهِ التبجيلا أشاد شوقي بالمعلم حين كان للمعلم مكانة معتبرة، مادياً ومعنوياً ولم يجرب التعليم ذات نهار، ورد عليه إبراهيم طوقان، وهو شاعر له أيضاً مكانته المعتبرة، لا لأن طوقان عانى العوز والفقر من راتب التعليم، وإنما لأن مهنة المعلم لم ترق له، فطوقان، مثل شوقي، ينتمي إلى أسرة برجوازية. رأى طوقان في مهنة التعليم مهنة تعب، وكان هو الذي عانى من أوضاع صحية في شبابه يحتاج إلى راحة بال وراحة أعصاب أيضاً، وأرّقته دفاتر الإنشاء وأخطاء الطلاب، فملّ المهنة ومتاعبها، ورأى غير ما رآه شوقي، ومن هنا تابع: ويكاد يفلقني الأمير بقوله كاد المعلم أن يكون رسولا وحجة طوقان في رده أن شوقي، لو جرّب التعليم ساعة، لقضى الحياة شقاوة وخمولا، وخلص إلى التالي: يا من يريد الانتحار وجدته إن المعلم لا يعيش طويلا ولم يعش طوقان طويلا، فقد مات عن ستة وثلاثين عاماً، وترك التعليم مبكراً على أية حالة. في المدارس، أيام كنا طلاباً، غالباً ما كان المعلمون يسطرون بيت شوقي، لا أبيات طوقان، ويجعلون منه مادة/ عنواناً لموضوع الإنشاء. هل كان المعلمون مقتنعين بما كانوا يفعلون، ولِمَ لَمْ يجعلوا من أبيات طوقان عناوين لموضوعات إنشاء؟
كان المعلم في 50 و60، وربما حتى 70، ق20 ذات مكانة مقبولة، وربما أسهمت قلة الوظائف في تلك الفترة في جعل وظيفة المعلم وظيفة ينشدها كثيرون، علماً بأن كثيرين، في أيامنا، ينشدون الوظيفة أيضاً لشحّ الوظائف وقلة فرص العمل. في 70 ق20 غدوت معلماً في مدارس حكومية. كانت تلك رغبتي، وكان سوء الراتب هو ما حثني على الانتقال من مدارس الحكومة إلى مدارس الوكالة، على الرغم من أنني، في الحكومة، كنت أدرّس في مدرسة ثانوية في نابلس، وفي الوكالة غدوت أدرّس في مدرسة إعدادية، وفي الريف. كان راتب الوكالة ضعف راتب الحكومة، ومع ذلك فلم أقتنع به. وغالباً ما أقول: كان الله في عونِ المعلمين.
وأنا أدرّس في مدارس الوكالة كنت شاباً، ولم أكرر قصيدة شوقي كثيراً، قدر ما كررت قصيدة طوقان، لا لأنني كرهت مهنة التعليم، وإنما لروح الدعابة فيها، ففي تلك الأيام كنت أمارس المهنة بقدر من الرغبة، وفي تلك الأيام قرأت رواية (جنكيز ايتماتوف): "المعلم الأول" بطبعتها الصادرة عن دار التقدم/ موسكو، ومن وحي بطلها استمددت، وغيري، طاقة للتعليم والإقبال عليه، لا من باب الربح والخسارة، وإنما من باب تعليم أبناء شعبي، فالتعليم، في حينه، رسالة ـ لي حتى اليوم، ما زلت أقوم بعملي أيضاً باعتبار التعليم رسالة، رغم الفارق بين راتب الأمس وراتب اليوم لصالح الأخير. وفي تلك الأيام لم أنتبه كثيراً لما كتبه (مكسيم جوركي) عن (انطون تشيخوف)، ونشره في مقدمة الجزء الأول من الأجزاء الأربعة (مؤلفات مختارة) التي نقلها إلى العربية د.أبوبكر يوسف وصدرت أيضاً عن دار التقدم (1981).
في تقديم (جوركي) لقصص (تشيخوف) أتى على موقف (تشيخوف) من وضع المعلم في روسيا في ق19. كان المعلم يعيش ظروفاً صعبة وقاسية، راتب ضئيل وأوضاع صحية بائسة، وغرف تدريس مزرية و.. و.."يا له من بلد أخرق روسيانا هذه!" قال (تشيخوف) لـ(جوركي) و"كيف لروسيانا أن تنهض دون ثقافة". الأسبوع الماضي كان أسبوع المعلمين: في الشارع وفي الحافلة وفي البيت وعلى صفحات التواصل الاجتماعي وفي المدن وفي القرى وفي العاصمة: رام الله، ولا بدّ من عدالة ما. ببساطة: لا بدّ من عدالة ما.