لم تعد احتفالات الفصائل في مناسبات تأسيسها تتخذ طابعاً بهيجاً، كما كانت الحال قبل سنوات، فلقد آثرت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين أن تلحق بأخواتها، فتكتفي بمسيرة لمسافة قصيرة تنتهي بمهرجان متواضع أهم ما فيه الكلمة الضافية التي ألقاها عضو المكتب السياسي صالح زيدان.
لا شيء يدعو للبهجة، بالرغم من طول العمر، وما يولده ذلك من اعتزاز بتاريخ مشرف من النضال الوطني تخللته تضحيات كبيرة، لكن الأهم هو الاصرار على المتابعة، والاصرار على النهوض.
غياب الاحتفاليات الواسعة والبهيجة أملته قسوة الظروف، وشدة المعانيات وتفاقم الأزمات، فعدا سؤال التكاليف في ظل ندرتها، ثمة أسئلة استنكارية من قبل الناس، تتعلق بسؤال بماذا تحتفلون، والناس جوعى ومرضى، ويعانون أشد أنواع القهر، النفسي والاجتماعي والوطني. ولكن حتى إحياء هذه المناسبة الوطنية، بشكل متواضع، لم يعد ممكناً في الضفة الغربية، حتى لو كان بأشكال تندرج في سياق دعم الانتفاضة الشبابية التي تنهي شهرها الخامس، وتجيب عن الأسئلة المرتبكة التي تتصل بإمكانية تواصلها، وبأهدافها.
وكالعادة، كانت الكلمة التي ألقاها الرفيق زيدان، شاملة، تعكس تشخيصاً دقيقاً وموضوعياً، لواقع الحال الفلسطيني، لكن المشكلة لم تكن يوماً في القدرة على التشخيص، بقدر ما انها، في تقديم خارطة طريق واضحة، وممكنة التحقيق. عند هذه النقطة، يصبح ما تقدمه الفصائل، لا يختلف كثيراً عما يقدمه أي إنسان أو مواطن عادي، فالكل يعرف الطريق، لكن أحداً لا يستطيع، تحويل الكلام الواضح، والنصائح والشعارات إلى عمل مؤثر، يؤدي إلى تصحيح المسارات التي تبدو وكأنها مقفلة.
لذلك فقد الناس الثقة بالفصائل، وبالقيادات السياسية لا لأنهم يتنكرون لأهمية وجود هذه الفصائل، ولا لأنهم يتنكرون لدورها، وتاريخها، بل لأنهم يعتقدون عن حق بأنها تتحمل مع فوارق واضحة، جزءاً كبيراً من المسؤولية عن معانيات الناس، بعد الإقرار والمسؤولية الأساسية والدائمة للاحتلال. إذا كانت حركتا فتح وحماس تتحملان الجزء الأكبر من المسؤولية عن معانيات الناس، بسبب حجمهما وتأثيرهما القوي في الحياة السياسية، فإن الناس لا تعفي الفصائل الأخرى، وهي كثيرة ومن بينها قوى اليسار، من المسؤولية.
المسؤولية المترتبة على الفصائل الأخرى عنوانها العجز، ليس عن التشخيص الصريح والجريء للأزمة، ولكن عن عدم القدرة على التأثير فيها ولو بالقدر الذي يخفف من معانيات الناس، ويحيي لديهم الأمل في تحقيق الإنجازات والتقدم نحو تحقيق الحد الأدنى من عوامل الصمود إن لم يكن أكثر من ذلك. يعجبني هذا الإصرار من قبل الفصائل على المواصلة رغم سوداوية المشهد العام، ولكن ثمة ما تتجاهله القراءات التشخيصية التي يقدمها اليسار الفلسطيني، الذي يضعف أمله في النهوض بدوره الوطني طالما بقي على هذه الحال من التشرذم. في التشخيص العام، يفترض، أن الظروف الموضوعية على الصعيد الفلسطيني تتيح الفرصة لتجاوز أزمته، ولمضاعفة وزنه في العملية الوطنية، بعد كل ما حل من تراجع وضعف لطرفي الهيمنة على السياسة الفلسطينية ونقصد حركتي فتح وحماس.
فتح لم تعد هي فتح التي كانت بوزنها وتأثيرها الحاسم، فتح التي كانت حركة الشعب الفلسطيني، وصاحبة المشروع الوطني، والجدار الذي تحميه، ومن الجهة الأخرى، لم تنجح حركة حماس في أن تتورث مكانة ودور حركة فتح، وخيارات كلا الحركتين لا تحقق إنجازات للشعب الفلسطيني.
وفي ضوء وجود الكثير من الفصائل والجماعات فإن الأوضاع لا ترشح إمكانية نشوء حركة أو فصيل جديد من غير المتوقع أن يقدم جديداً تفتقر اليه برامج الفصائل الموجودة. إذاً بداية العلاج للخروج من هذه الأزمة الوطنية العامة، والتي تعكس جملة الأزمات السياسية والاجتماعية الفصائلية، لا بد من التفكير في اشتقاق حلول على أرضية الواقع القائم. ثمة إمكانيتان للبدء بتجاوز الواقع القائم لإنهاء الانقسام:
الأولى تكمن في ضرورة أن تتجاوز فصائل اليسار الفلسطيني خلافاتها غير المقنعة وغير المفهومة، نحو توحيد قواها ولو بالحد الأدنى الجدي من العلاقة التكاملية. لا يمكن أن يتفهم الناس، دعوات الفصائل اليسارية للمصالحة والوحدة، وهي نفسها لم تقو على خلافاتها، الأقل خطورة من الانقسام الذي يشكو منه الشعب الفلسطيني. وفي ظل هذا التشرذم حتى داخل الفصيل الواحد، فإن توحيد أية جماعات أو فصائل من شأنه أن يحيي الأمل، وأن يولد طاقة شعبية ضاغطة في اتجاه إنهاء الانقسام.
الإمكانية الثانية، تتصل بضرورة أن تلتقي كافة الفصائل والجماعات الرافضة للانقسام، على صيغة من التوافق لتوليد كتلة ضغط فاعلة على طرفي الانقسام، خصوصاً وأن مثل هذا الجهد من شأنه أن يحشد طاقات شعبية أوسع كثيراً من دائرة الفصائل وأكثر تأثيراً.
من هذه الزاوية تتحمل هذه الفصائل كلها مسؤولية كبيرة عن بقاء خطابها وشعاراتها وتمنياتها، بعيدة عن ملامسة حاجات الناس، وهي سبب في فقدان هذه الفصائل الثقة من قبل الناس الذين لا يرون في مصداقية خطابها سبباً لإعفائها من المسؤولية.