خلافاً لتوقعات الاقتصاديين والسياسيين، دفعت سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية على الصين لاستفزاز الأخيرة والتعهد بالمضي في حربها التجارية مع واشنطن والرد عليها بفرض رسوم جمركية مضادة بنسبة 125%.
هذه الحرب المتبادلة بين البلدين تؤثر كثيراً على الاقتصاد العالمي، لأنهما باختصار أهم مؤثرَين سياسيَّين واقتصاديَّين في الساحة الدولية، ويشكلان معاً حصة كبيرة في الاقتصاد الدولي بنسبة 43%، حسب إحصاءات صندوق النقد الدولي.
نعم هناك عجز في الميزان التجاري بين الولايات المتحدة الأميركية والصين وهو لصالح الأخيرة، وواشنطن تعاني من هذا العجز بمبلغ قدره 295 مليار دولار، وهو ليس مبلغاً بسيطاً في التعاملات التجارية، غير أن طريقة معالجة ترامب لهذه الأزمة تبدو أنها غير فعّالة.
ترامب الذي رفع الرسوم الجمركية على الصين بنسبة 145% لكي يدفعها للاستجابة إلى مطالبه بتقليل العجز التجاري، وحتى يدفع الشركات الأميركية الكبرى لإعادة النظر في نقل مصانعها إلى الولايات المتحدة، عانت إدارته من زيادة هذه الرسوم التي أدت إلى خسائر بالمليارات في البورصات الأميركية.
النتيجة أن الإدارة الأميركية استثنت سلعاً مهمة مستوردة من الصين من الرسوم الجمركية، مثل الهواتف النقالة والحواسيب الآلية، غير أن المعركة التجارية لا تزال على أشدها بين البلدين، وبالتأكيد ستنتج عنها تداعيات اقتصادية وفواتير باهظة سيتحملها المستهلك في النهاية.
من الصعب القول إن واشنطن ستنتصر في هذه الحرب، لعدة أسباب من أهمها أن الصين، التي تعتبر مصنع العالم، تصنع سلعاً متنوعة بأسعار تفضيلية لا يمكن الحصول عليها من أي دولة أخرى، نتيجةً لتوفر المواد الأولية ورخصها ورخص العمالة.
كذلك ستعاني الصين من الرسوم الجمركية الأميركية المرتفعة إذا ظلت على حالها، وسيعني ذلك على الفترات الطويلة إغلاق المئات من الشركات الصغيرة والمتوسطة المصدرة للولايات المتحدة الأميركية وارتفاع معدلات البطالة في الصين.
إذا كانت واشنطن على سبيل المثال ترغب في تصنيع هاتف نقال آي فون في مصنع أميركي، فإنه سيكلفها ضعف ونصف سعره في السوق، وهذا ينطبق على الكثير من البضائع التي تستوردها الولايات المتحدة من الصين.
السبب الثاني يتعلق بالبنية التحتية الخدمية التي توفرها بكين، بما يشمل سلاسل التصنيع والتوريد، جميعها مبنية على فكرة تلبية متطلبات العميل، وهذا الجو الاقتصادي، الذي تبلور منذ عشرات السنين، لا يمكن لأي منافس دولي أن يجاريه دون خبرة طويلة وأسس ماكنة من قوانين وتشريعات اقتصادية وبنى خدمية متوفرة.
الأمر الآخر متعلق باعتماد العالم كله على الصين، إلى درجة أن هناك مصانع محلية كثيرة حول العالم أفلست بسبب إغراق بكين الأسواق العالمية بمنتجات رخيصة تلبي متطلبات الزبون الذي يهمه قبل كل شيء رخص الأسعار.
حتى «البراندات» العالمية والأميركية التي تكلف آلاف الدولارات للمنتج الواحد، فتحت بكين النار عليها وخرج العشرات من المؤثرين الصينيين على مواقع التواصل الاجتماعي لفضح هذه الماركات بادعاء أنها تصنع منتجاتها في الصين وثمنها الحقيقي بخس ولا يتجاوز الخمسين دولاراً، في حين تصل المستهلك بمبلغ 4500 دولار.
هذا كله يفسر لماذا تعاني واشنطن من رسوم ترامب الجمركية، لأن السوق الأميركي ممتلئ بالبضائع الصينية التي يصعب الاستغناء عنها بسهولة، ولذلك من المتوقع أن تتأثر الولايات المتحدة أكثر من الصين من هذه الرسوم على اقتصادها الوطني.
الحرب التجارية هذه في مظهرها تحمل طابعاً انتقامياً اقتصادياً، غير أن لها دلالات سياسية مرتبطة حتماً بمسألة التنافس السياسي على «كعكة» العالم، وكذلك متعلقة برغبة ترامبية للانتقام من الصين على خلفية اتهامه لها بفشله في انتخابات العام 2020 بسبب عدم تعاملها بحكمة مع تفشي جائحة «كورونا» خارج حدودها الوطنية.
مثل هذه الحرب تعطي تصوراً عن الموقف الصيني من أي فعل أميركي خصوصاً على المستوى السياسي والعسكري، إذ تبين أن بكين التي اعتمدت طوال السنوات الماضية على سياسة التمسكن حتى التمكن، تنطلق في صياغة علاقاتها التنافسية مع الولايات المتحدة الأميركية من موقعها المهم في النظام الدولي.
كان الأولى بالرئيس الأميركي إيجاد حلول لتقليل العجز التجاري مع الصين وغيرها من دول العالم، بدلاً من فتح النار عليها والتلويح بعقاب الرسوم الجمركية، مثل دعم الشركات الأميركية وتسهيل مهماتها في نقل صناعاتها إلى الداخل الأميركي، ورفع تدريجي في الرسوم الجمركية دون إحداث زلازل اقتصادية.
في النهاية، ستجلس هاتان الدولتان على طاولة المفاوضات للتفاوض حول الرسوم الجمركية المبالغ فيها، وهذا يعكس إلى حد كبير أنهما لن تخرجا في صيغة غالب ومغلوب، لأنهما لاعبان كبيران شبه متكافئين، وأي حرب بينهما مهما كان شكلها ستخرج في صيغة لا غالب ولا مغلوب.