انهيار غير مأسوف عليه

تنزيل (1).jpg
حجم الخط

الكاتب: عبد المجيد سويلم

 


سيسجّل تاريخ المنطقة أنّ قمّة بغداد الأخيرة، الفاضحة والمفضوحة كانت ــ كما أظنّ ــ الإعلان الحقيقي عن نهاية وانهيار النظام العربي الذي تأسّس في أربعينيّات القرن الماضي.
الحقيقة أنّ هذا النظام كان ينازع الموت في السنوات الأخيرة، ودخل في مرحلة الموت السريري في سياق هذه الحرب الإجرامية على الشعب الفلسطيني، و»تتوّجت» نهايته المأساوية مع هذه القمة التي تكثّف حالة من الدراما السياسية التي تختلط فيها صنوف عجيبة وغريبة من مرارة العجز والفشل مع أشكال مذلّة من المهانة والانكسار.
والحقيقة الأخرى أنّ هذا النظام نشأ هشّاً، ضعيفاً وتابعاً، ولم يكن في يومٍ من أيّام عمره المديد سوى بهذا الواقع والمواصفات إلّا في فترات عابرة وقصيرة مؤقّتة، وبصورةٍ جزئية لا أكثر.
لا أظنّ أنّ لاستعراض وتتبُّع مسار هذا النظام أيّ أهمية تُذكر من الزاوية العملية سوى أهمية كبرى وهي:
أيّ نظامٍ سينشأ عن سقوط وانهيار النظام العربي؟ وربما، أيضاً، فيما إذا كان سينشأ أصلاً مثل هذا النظام البديل؟ ولا يبدو أنّ مثل هذا الاستعراض والتتبُّع سينفعنا بشيء ــ حتى من الناحية النظرية والتاريخية ــ إلّا إذا ساعدنا ذلك في استقراء الحالة العربية في الظروف التاريخية الجديدة التي يمرّ بها الإقليم العربي.
والدرس الأهمّ الذي يمكننا البناء عليه مع وصول النظام العربي إلى محطّته الأخيرة هو أنه كما هو الآن، وكما كان مساره حتى الآن، وما وصل إليه الآن، وأخيراً لم يكن يحمل صفات ومواصفات النظام بالمعنى المتعارف عليه، وأنّه في الواقع الآن، وكما كان دائماً ليس سوى محصّلة التعارضات والتناقضات، والتمحورات، والاصطفافات لمكوّناته، وليس بصورة مستقلّة عنها كلّها، وهو بالتالي كان نظاماً زائفاً وافتراضياً، وكان المشترك، أو القاسم المشترك بين مكوّناته غالباً ما يأتي ضعيفاً وعاجزاً وفاشلاً ومشلولاً بسبب، وبحكم ضيق المساحة التي تشغلها هذه المشتركات، أو هذه القواسم.
وهذا الدرس ما زال هو الدرس الأوّل في قراءة الحالة العربية.. على كلّ حال ما جرى لـ»قمة بغداد»، وما جرى فيها يشي بكلّ ما ذهبنا إليه حتى الآن.
زيارة دونالد ترامب للخليج كانت المحطّة الفاصلة في هذه القمة، وكانت مفتاح الإعلان عن نهاية المرحلة.
أراد ترامب أن يكرّس أربعة معطيات كبيرة لتكون هي، وليس غيرها حقائق الحالة العربية، الآن، ولسنواتٍ طويلة قادمة.
الأولى، هي أنّ للعرب قيادة جديدة، لا ينازعها فيها أحد، وهي منطقة الخليج العربي ــ لاحظوا أرجوكم هنا أن ترامب غيّر كل تاريخ التسميات في خرائط العالم، وأطلق عليه الخليج العربي بدلاً من الفارسي، ليس نكاية بإيران فقط، وإنّما لتكريس هذه القيادة الجديدة.
وهي غنيّة، وقويّة عسكرياً، وستكون مؤهّلة تقنياً، تحت الحماية الأميركية التي باتت تتشابك مصالحها الكبرى مع بلدان هذه القيادة الجديدة بصورةٍ لا تخضع كما كانت سابقاً لاعتبارات الدولة الصهيونية المباشرة، وإنّما أصبحت منطقة للنفوذ المباشر، دون وكالة، ولا وصاية، ولا اعتراضات، أو تحفظّات أحد.
وهذا التحوّل مهما كان ضبابياً في بعض جوانبه حتى الآن، ومهما كان سيبدو مستحيلاً في مراحل تاريخية سابقة، إلّا أنه يمضي بسرعة نحو هذا الاتجاه.
الثانية، هي أنّه لن يسمح لمصر بعد اليوم أن تتصدّر المشهد العربي كدرعٍ واقٍ لمنطقة الخليج من زاوية ما تسمّيه الأمن القومي العربي، لأن بمقدور بلدان الخليج أن تقوم بهذا الدور، خصوصاً أنّ إيران ستكون في وضعٍ لا يمكنها تشكيل أيّ تهديد لهذه البلدان، وطبعاً هي ليست مهدّدة من تركيا ومن دولة الاحتلال، وتربطها كلّها علاقات جيدة، وأكثر من جيدة أحياناً مع كل من روسيا والصين.
بهذا تكون مصر قد تهمّشت لهذا السبب، ولأسبابٍ أخرى، سنأتي عليها.
والثالثة، هي أنّ التهديد الصهيوني من زاوية مفهوم الأمن القومي قد تقلّص موضوعياً وانحصر الآن - افتراضياً - في الخطر على مصر والأردن والعراق بعد أن بدأت سورية مسار «الإبراهيمية الجديدة»، أو بثوبها الجديد، وبما يجعل ــ افتراضياً، أيضاً ــ دولة الاحتلال على الحدود العراقية، وبما تشكّله الحرب في/ وعلى القطاع من تهديد محتمل للدولتين الأردنية والمصرية.
هذه هي المرّة الأولى منذ اتفاقيات «كامب ديفيد» التي تنكشف من خلالها مصر كدولة لا «ينبغي» أن تكون في موقع القيادة والريادة على صعيد دورها الإقليمي، ويجري من خلالها العمل على تكريس هذا الانكشاف، وهذا التهميش.
وهذا ما يفسّر إلى حدّ بعيد وقوف بعض بلدان الخليج العربي الجديد ضدّ المصالح العليا للدولة المصرية في أثيوبيا والسودان وليبيا، وهذا ما يفسّر التحالف الخاص لبعض هذه البلدان مع تركيا في مرحلة استحكام الخلاف بين تركيا ومصر.
وأمّا الآن فقد سُحِبَ ملفّ غزّة من الأيادي المصرية دون إعلان أو ضجيج، وعلى الأغلب فإن ليبيا ستشهد حرباً داخلية قبل أن يتمّ إسقاط «حكومة الوحدة»، من قبل قوى شعبية، وقبل أن تتحوّل ليبيا إلى الخزّان الجديد لـ»الداعشية» الإقليمية القادمة من سورية حسب شروط ترامب على القيادة السورية المتحوّرة عن «داعش»، والذاهبة إلى الصيغة الجديدة من «الإبراهيمية».
عهدت أميركا بـ 3000 «داعشي» كانوا حتى الآن في عهدتها الخاصة إلى حكومة الشرع، وطلبت منه مغادرة أكثر من 12،000 «داعشي» متحوّر من الأجانب، في حين يصرّ الشرع حتى الآن على إدماجهم في جيشه الجديد، وهو ما تعترض عليه أميركا، ودولة الاحتلال، وأكراد سورية، وقوى أخرى كثيرة.
أقصد أنّ مصر يمكن لها أن تعود بقوّة إلى موقع القيادة والريادة للإقليم إذا أصرّت على دورٍ كهذا، وخصوصاً إذا حُسمت الحرب في السودان لصالحها، وكذلك في ليبيا، وهو ما لا تريده أميركا على الإطلاق، ولا يريده أهل الخليج بكلّ تأكيد.
باختصار لا تريد أميركا أيّ منافسٍ لدول الخليج في قيادة الإقليم، ولذلك بتنا أمام محاور جديدة لا تقتضي وجود نظام عربي، وإنّما باتت تحتّم موت هذا النظام على هزله وبؤسه وهشاشته.
خسرت مصر الخاصرة التاريخية الشامية في مشروعها «القومي» مؤقّتاً، وإلى أن تُحسم الأمور في ليبيا والسودان لصالحها فإنّ أميركا، و»بلدان الإبراهيمية الجديدة» تسابق الزمن لكي تخسر مصر دورها الإقليمي كاملاً.
الرابعة، أن الدور الإقليمي لدولة الاحتلال يتقلّص يوماً بعد يوم، لكنه ما زال قادراً على تقديم يد المساعدة والإسناد بمحاولات العبث بالأمن المصري والأردني، ولأن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في كلا البلدين قابلة «للاستثمار» والتوظيف، ولأن خياراتهما ما زالت موضوعياً صعبة ومؤقّتة.
لم يعد هناك من أولويات مطلقة إلّا من زوايا محدّدة فقط في الإستراتيجية الأميركية الجديدة.
أمن دولة المشروع الصهيوني أولوية مطلقة، أما طموحاتها الخاصة فهي قيد الدراسة.
عدم تهديد دول الخليج أولوية مطلقة الآن، وليس كما كان عليه الحال في عهد جو بايدن، لكن حدود الدور الإقليمي للخليج في إطار المنظومة العربية، وليس بما يتعلّق بإيران أو تركيا، ولا حتى اليمن إلّا من زاوية البحث عن حلول معه.
الدور التركي بات محصوراً بالحصّة التركية من سورية، وبترتيبات المسائل الكردية في الإقليم.
في السنوات القليلة القادمة سينفجر هذا الإقليم من أعماقه كالبركان، ولا أضمن لكم نظاماً عربياً واحداً من أخطار كهذه، خصوصاً إذا انفجر الوضع في كيان الاحتلال.
من أراد أن يخسر بلاده، وسيادته، وربّما وجوده فليس أمامه سوى أن يكون جزءاً من «النظام العربي» الذي يقوده ترامب، ومن أراد أن يصمد في وجه هذه الحقبة السوداء من تاريخ العرب عليه أن يعرف أنّه سيعاني الأمرّين قبل أن ينجو بنفسه، وقبل أن يحافظ على بلاده حرّة ومستقلّة عن حالة الإذعان الكاملة، غير منقوصة.