من نفق عيلبون إلى طوفان الأقصى»

تنزيل (15).jpg
حجم الخط

الكاتب: عبد الغني سلامة

 

 

«من نفق عيلبون إلى طوفان الأقصى»، نقاش في المسيرة التراجيدية للحركة الوطنية الفلسطينية، جديد الكاتب والباحث الفلسطيني ماجد كيالي، إصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2025، يقع الكتاب في 223 صفحة، ويتناول بشكل رئيس تحليلاً معمقاً لواقعنا السياسي الراهن من منظور تاريخي، ونقداً للحركة الوطنية الفلسطينية بشكل عام منذ انطلاقتها وحتى اللحظة، بالتركيز على الفترة الأخيرة التي وقع فيها العدوان الإسرائيلي على غزة ودور «حماس» في الموضوع.

ويأتي هذا الكتاب استمراراً لمشروع الكيالي الفكري وجهوده المثابرة في نقد الحركة الوطنية الفلسطينية، ودعوته إلى إجراء مراجعات جريئة لمجمل التجربة الفلسطينية، واستخلاص العبر.. حيث صدر له في السياق نفسه خمسة كتب، هي: الثورة المجهضة (2013)، تحولات إسرائيل في عالم متغير (2013)، «فتح» في 50 عاماً (2016)، نقاش السلاح (2020)، الصدع الكبير (2021).. إضافة إلى ثمانية كتب أخرى في فهم ونقد التحوّلات العربية في العقود السابقة.

ما يميز كتب الكيالي ومنهجية تفكيره أنه يعيد قراءة التجربة الفلسطينية على مدى الستة عقود الماضية، موضحاً أبرز الأخطاء التي حصلت، وشارحاً أسباب الأزمة.. صحيح أنه لا يقدّم أجوبة جاهزة، لكنه يطرح الأسئلة الأساسية، ويقترح ويقدم مخارج وحلولاً.. يكتب دون تجريح ولا تخوين، بأسلوب موضوعي رصين، وبلغة خالية من التنظير الأيديولوجي والشعارات العاطفية والخطابات الشعبوية، وما يمكّنه من ذلك تحرره من الانتماء الحزبي.. وفي كتابه الأخير، سيتوقع القارئ أنه مخصص لنقد «حماس» وأسلوبها في المقاومة، على ضوء النتائج الكارثية التي أفضى إليها «طوفان الأقصى»، سيما أن معظم مقالاته الأخيرة تدور حول هذا الموضوع، لكنه هنا يسلط الضوء على تجربة «فتح» ومنظمة التحرير وسائر الفصائل الوطنية واليسار الفلسطيني.. مع ربط هذا المسار بتجربة «حماس».

المسألة الأخرى أنه يتحدث عن المشروع الوطني الفلسطيني دون الوقوع في فخ التقسيمات الجغرافية التي نشأت عن الاحتلال، فهو لا يحصره في الضفة وغزة والقدس؛ بل يتحدث أيضاً وبنفس الأهمية عن فلسطينيي الداخل في الـ48، وعن فلسطينيي الشتات.

وفي مشروعه النقدي شخّصَ أسباب الأزمة الفلسطينية وعوارضها، منها مثلاً تهميش منظمة التحرير، وإعلاء شأن الكفاح المسلح على حساب أساليب المقاومة الأخرى، موضحاً أن الخيار العسكري وصل نهايته، وتحدث عن عسكرة الانتفاضة، وغياب القيادة الجماعية، وترهل الفصائل الوطنية (والإسلامية) وتكلسها، وفقدانها عنصرَي الحيوية والتجديد، وتحولها إلى سلطة (ثم إلى سلطتين)، والأهم غياب خطة إستراتيجية شاملة للصمود والمواجهة والتحرير متفق عليها، أو غياب الرؤية الإستراتيجية بعيدة المدى، وغياب الأسس الديمقراطية في العمل الكفاحي والممارسة السياسية، وضعف منهجية التفكير العقلاني، وانفصال القيادة والفصائل ومنهجية الكفاح المسلح عن الواقع السياسي (المتغير دوماً)، وحتى عن البنية المجتمعية الفلسطينية، والارتهان للخارج، والرهان على شعارات وكيانات وهمية.. معتبراً كل ما سبق سلسلة أخطاء قادت إلى مراكمة الإخفاقات، وهذه الإخفاقات تتحمل مسؤوليتها «فتح» ومنظمة التحرير وسائر القوى الفلسطينية، وبالضرورة حركتا «حماس» و»الجهاد».

في الفصل الأول، ركز على موضوع صعود وهبوط الحركة الوطنية الفلسطينية، فيرى أنها انطلقت على فكرة تحرير فلسطين (انطلقت قبل النكسة، ومن خارج الأرض المحتلة)، واستمدت شرعيتها من ممارستها الكفاح المسلح، ثم تحولت إلى فكرة الدولة الفلسطينية (البرنامج المرحلي)، وبعد العودة للوطن واليأس من التزام إسرائيل بالتسوية (كامب ديفيد2) زاوجت بين العمل المسلح والمقاومة الشعبية (الانتفاضة الثانية)، الأمر الذي أتى بنتائج معاكسة ألحقت ضرراً بليغاً بالحركة الوطنية.. ثم جاء الانقسام، واستفراد «حماس» بنهج الحرب الصاروخية.. في النهاية ظهر التناقض الكبير بين الشعار والواقع، وأصيبت المقاومة الفلسطينية بانتكاسة، إذ تبين (بعد فوات الأوان) أن محاربة إسرائيل عسكرياً، ومحاولة هزيمتها أمر يفوق بكثير إمكانيات الفلسطينيين وحدهم، ليس فقط بسبب الفرق الهائل في موازين القوى، بل لأن إسرائيل ليست مجرد دولة «قوية» فهي بمثابة وضع دولي في الشرق الأوسط، أي مدعومة من الغرب الإمبريالي بكل إمكانياته.

في الفصل الثاني، تناول خيار الكفاح المسلح، موضحاً أن سبب نجاحه في مراحله الأولى استثمار الفلسطينيين للظرف التاريخي آنذاك: تناقضات الدول العربية وتنافسها فيما بينها، وسماحها للفلسطينيين بممارسة الكفاح المسلح للتخلص من عار هزيمة النكسة، لكن هذه الفترة سرعان ما انتهت وبدأت الأنظمة العربية تضيّق الخناق على الفلسطينيين.. ويستطرد الكيالي شرحه عن أزمة الكفاح المسلح، موضحاً أن هذا الخيار لم يعد ممكناً في ظل التحولات الإقليمية والدولية، وأنه لا بد من البحث عن أساليب أخرى أكثر نجاعة.

في الفصل الثالث، تناول إشكالية الهوية والكيانية لدى الفلسطينيين، موضحاً أن النكبة وخلق مشكلة اللاجئين مثّلا الحدث المؤسس لبلورة الكيانية الفلسطينية، لكن هذه الهوية نشأت في ظل ظروف بالغة التعقيد، لذا لم تتطور بشكل طبيعي، بل أتت متأزمة ومتوترة، نتيجة تشتت الفلسطينيين في بقاع العالم، وعيشهم في ظروف متباينة ومختلفة، وتحت ضغوطات شديدة، ومؤكداً أن الهوية الوطنية معطى تاريخي تنشأ في مرحلة تاريخية معينة، وهي معرضة للاندثار في حالة تغير تلك الظروف.. إذ لا توجد هويات عابرة للتاريخ.. لذا فإن الهوية الفلسطينية تواجه اليوم تحديات خطيرة وحقيقية.

في الفصل الرابع، طرح سؤال «طوفان الأقصى»، وما بعده، وهنا يراجع خطاب «الضيف» الذي اعتمد وراهن بشكل كبير على أمور غيبية وقدرية، وعلى أوهام سياسية مثل وحدة الساحات، ومحور المقاومة، وزحف الجيوش والشعوب العربية.. ثم تراجع «حماس» عن الأهداف الرئيسة للطوفان، واستبدالها بأهداف متواضعة وآخرها مجرد إنهاء الحرب.

مبيناً أن أسلوب «حماس» في المقاومة يختلف عن نهج حركات التحرر الوطني، فهو بمثابة إعلان حرب، والادعاء أنها حرب شبه نظامية بين جيشين وقوتين صاروخيتين.. وفي المحصلة استغلت إسرائيل فرصة السابع من أكتوبر وشنت حرباً شاملة بقوة جبارة، لتحقق من خلالها أهدافها الكبيرة، وهي تدمير القطاع، وجعله منطقة طرد، للتخلص من كتلة ديموغرافية مهمة، وتمهيد الطريق لضم الضفة (أو أجزاء كبيرة منها) وخلق واقع جيوسياسي جديد، تمثل في القضاء على «حزب الله»، وتغيير النظام في سورية واحتلال أجزاء جديدة وتدمير مقدرات الجيش السوري، وتقليم أظافر إيران.. وهي أهداف قديمة لم يكن لإسرائيل أن تحققها لولا ظروف الحرب، وتداعياتها، والدعم الدولي الكبير.

في الفصل الخامس، تحدث عن التاريخ التراجيدي للفلسطينيين وللكفاح المسلح، بعرض تاريخي موجز، وتحليل عميق، لينتهي في الخاتمة باقتراح إستراتيجية فلسطينية سياسية وكفاحية جديدة، تتضمن رؤية بعيدة المدى، ومفاتيح للحل.

الكتاب يتضمن العديد من الأفكار المهمة التي لم يتسع المقال لاستعراضها.