أرأيتم ما نحن فيه ؟

b4074a08395cccfa2439721cb44bffc8.jpg
حجم الخط

الكاتب: أكرم عطا الله


 

 

لا يمكن أن يشهد تاريخ الصراعات سلوكاً أكثر بشاعة ووضاعة من سلوك إسرائيل، صحيح أن عقل المؤسسة الإسرائيلية كما أفسره هو عقل مختل لكن ليس لهذه الدرجة التي يحتقر فيها كل ما أنتجت البشرية من قيم وأعراف، فما حدث في غزة سيظل شاهداً على ما ارتكبته تلك الدولة من فظائع لكنها توغل أكثر في امتهان كرامة البشر، حيث إن التاريخ لم يشهد في أكثر لحظاته جنوناً أن تتم مقايضة البشر بالطعام لإرغامهم على التحرك حيث تريد الدولة المحتلة.

كان الطغاة سيخجلون أن يكتب في تاريخهم المتوحش أنهم حرموا البشر من الغذاء أو أنهم استخدموا طعام الأطفال لتحقيق هدفهم، فلم يكتب في تاريخ الطغاة أنهم استخدموا التجويع سلاحاً ضد الشعوب لكن إسرائيل فعلتها.

في كل الصراعات كان الخصوم واضحين: قوى سياسية أو عسكرية لكن هذه أول مرة تكون حرباً ضد الشعب، مدنيين وأطفالاً، في كل الحروب تكون هناك خسارات من المدنيين كخسارات جانبية لكن في هذه الحرب كان المدنيون هم الهدف، هكذا يتضح مما اعترف به نتنياهو حين قال إن هدف الحرب هو تدمير القطاع وتهجير سكانه حين لا يجدون مكاناً يعيشون فيه.

خطة توزيع المساعدات الأميركية في غزة خطة إسرائيلية بامتياز تطورت عن خطة الجنرالات التي هدفت لإفراغ شمال وادي غزة نحو الجنوب، ثم بعد مجيء ترامب تصبح السياسة الإسرائيلية أكثر وقاحة في الإعلان عن نفسها على لسان سموتريتش ورئيس وزرائه وأن إسرائيل ستؤمن الغذاء في نقاط في أقصى جنوب القطاع بينما تقطعه عن الشمال والوسط ليزحف الناس نحو الجنوب تمهيداً لترحيلهم خارج القطاع.

بعد أن يترك الناس باقي مناطق القطاع نحو رفح التي تم تدميرها سيتم تدمير المناطق التي سيخليها السكان، وهي كل مناطق غزة ليتم تدميرها ولا يجد الناس بيوتاً ليسكنوها إذا ما انتهت الحرب ولا يبقى لهم مجال إلا مغادرة القطاع.

فأي عقل شيطاني هذا الذي يفكر بهذه الطريقة بدفع الناس إلى معازل يقدم فيها الأكل للناس تجهيزاً لطردهم.

لقد وضعت إسرائيل الناس أمام خيارين: إما التعامل مع نقاط توزيع الغذاء وإما الموت جوعاً، ولأن القوة تفرض وقائعها من الطبيعي أن يذهب الناس لتلك النقاط أمام هندسة التجويع المتقنة وحينها تبدو نداءات الفصائل وبالتحديد حركة حماس أشبه بنكتة في مأتم عندما تطلب من الناس عدم التوجه لتلك النقاط والامتناع عن استلام طرود الغذاء لأسباب أمنية ـ في ظل الانهيار التام من الجوع وإشعال غريزته التي تطفئ كل الغرائز الجسدية والحاجات الإنسانية بما فيها الحاجات الوطنية لأن نداء الفصائل مخالف للتركيبة الفطرية للبشر.

حماس لم تدرك بعد في أي مكان تقف ولم تقرأ بعد ما الذي حدث، أما المستقبل فهي لم تفكر بالنظر إليه لشدة غرقها في معادلة الراهن شديدة التعقيد بالنسبة لها.

لكن الإسرائيلي الذي يهندس وفقاً لهرم ماسلو والذي استخدمته إسرائيل لمحاولة إخضاعنا في الانتفاضة الأولى كما كتب عبد الوهاب المسيري فهذه المرة لا مسؤولية إسرائيلية على غزة كما تدعي مستندة لوجود حكم في غزة يعود لحركة حماس الذي تقاتله كما تبرر حربها على القطاع.

لكن الحقيقة التي اعترف بها نتنياهو أنه يقاتل سكان القطاع وليس حماس وحدها لأن مشروعه أبعد كثيراً من حركة حماس بل إن هذا المشروع الإستراتيجي لا ضمان له إلا باستمرار ادعاء حكم حماس لغزة أثناء الحرب وإلى حين تحقيقه، وهو ما لم تفهمه الحركة بعد رغم أن المعادلة شديدة الوضوح.

لا داعي للتذكير بأن من أسوأ ما شهدته حرب الإبادة هو الخلل الذي شاب الجبهة الداخلية في القطاع، فبعض التجار امتصوا دم الشعب دون أن تتمكن حركة حماس من وضع حد لهم، ما جعل الحركة أمام تساؤلات لم تكن في صالحها، ومكاتب الصرافة تحولت إلى غيلان تشارك المواطن في راتبه حين تقتطع أكثر من ثلث معاشه أو أي حوالة قادمة من الخارج، وهو ما أضعف تضامن الخارج مع الداخل.

كل هذا كان يحدث أمام سمع وبصر الحركة التي أصرت على حكم غزة وتمكنت بنجاح من ملاحقة معارضين كتبوا على السوشيال ميديا، لكنها عجزت عن ملاحقة تاجر يخزن الدقيق ليبيع الكيس بمئات الدولارات ....!

كل هذا وأكثر أضعف الجبهة الداخلية، لكن الأساس هو سيطرة إسرائيل المطلقة على الحياة في غزة يجعلها أكثر قدرة على التحكم في سلوك البشر رغم فاشية الوسيلة التي تستخدمها، في ظل هذا العجز الكبير الذي يلف العالم الذي بات يصرخ عالياً كأنه اكتشف تفاحة إسرائيل العفنة بعد أكثر من عام ونصف العام تاركاً لها أن تفعل ما تشاء، كأن احتجاجه نوع من تبرئة العتب لا أكثر.... ستستمر لعبة الموت لأن إسرائيل تجدها فرصة سانحة لن تتكرر لتصفية غزة، وحماس لم تفهم بعد ما المطلوب منها، لذا تفاوض بكل هذه السذاجة ....!