وسط ركام الأبنية المهدّمة، وبين أنين المصابين وصراخ الأطفال، أطلق مجموعة من طلبة جامعة القدس المفتوحة في قطاع غزة حملة إعلامية وطنية وإنسانية حملت اسم “شاهد عيان”، بهدف تسليط الضوء على قصص حقيقية من قلب المأساة، وتوثيق شهادات من عاشوا الحرب بكل تفاصيلها، وواجهوا الخطر لحظة بلحظة، وسُلبت منهم حقوقهم تحت وابل القصف والنيران.
هذه الحملة لم تكن مجرد نشاط إعلامي عابر، بل كانت صرخة موثقة في وجه التعتيم الإعلامي، ورسالة نبضها الإنسان وغايتها إعلاء صوت المقهورين. الحملة، حيث أوضحت منسقتها أفنان الشنتف، انطلقت بعد عدة جلسات مطوّلة بين أعضاء الفريق لاختيار نماذج حقيقية من الضحايا ليكونوا شهودًا على حقبة دامية من تاريخ القطاع، وليضعوا العالم أمام الحقيقة المجردة، قالت: "لم تكن الحملة مجرد تصور نظري، بل نزلنا إلى الميدان، دخلنا مخيمات النزوح ومراكز الإيواء، استمعنا للنساء اللواتي فقدنَ أزواجهن، وللأمهات اللواتي بتن يُرضعن أبناءهن من الألم، لا من الحليب.
رأينا الأطفال يحملون الخوف في أعينهم بدلاً من الدمى، وسجلنا قصصًا لنساء فقدن الأمان، وصغار حُرموا التعليم، ومرضى لم يجدوا الدواء". في مشهد موازٍ، توجه فريق الحملة نحو أبطال الظل، أولئك الذين يعملون في صمت، ويقفون في خطوط النار الأولى؛ رجال الدفاع المدني الذين لا يترددون في اقتحام الأنقاض لإنقاذ من تبقّى حيًا، رغم إدراكهم أنهم يقتربون من الموت في كل نداء.
كما تم إجراء مقابلات مع صحفيين ومصورين، باتوا هدفًا مباشرًا للصواريخ والقذائف، لأنهم ببساطة ينقلون الحقيقة. أحمد قرموط، مصور الحملة، تحدث عن التحديات الجسيمة التي واجهها الفريق قائلاً: "أكبر الصعوبات لم تكن فقط في إيجاد شخصيات تروي قصصها، بل في تنفيذ العمل ميدانيًا وسط القصف وانقطاع الكهرباء والإنترنت، أحيانًا كنا ننتظر ساعات لنجد وسيلة تنقلنا إلى منطقة أخرى، وفي كل مرة نغادر فيها نقطة كنا نودّع الحياة ونأمل أن نعود".
في المقابل، ترى صانعة المحتوى أمل كلوب أن هذه الحملة تجاوزت مجرد التوثيق، بل أصبحت شكلًا من أشكال المقاومة السلمية، قالت: "الحملة انطلقت في السابع عشر من مايو، وقد التزمنا من اللحظة الأولى بأن نقدم وجوه الحرب كما لم تُرَ من قبل؛ أن نظهر وجوه الأمهات حين يفتشن عن أولادهن تحت الردم، أن نوثق نداءات الاستغاثة من الأطباء، وأن نُسمع العالم صوت الطفل الذي فقد مدرسته، وسريره، وحتى لعبته، خاطرنا بأرواحنا لأن صوت الحقيقة يستحق".
وقد سعت "شاهد عيان" إلى إنتاج محتوى صادق بعيد عن التهويل لكن قريب من جوهر الألم، يوصل الرسالة الإنسانية من قلب المأساة إلى ضمير العالم.
تضمنت الحملة مقابلات مع أطباء وحقوقيين، عرضوا بالأرقام والصور حجم الانهيار في المنظومة الصحية والقانونية، محذرين من كارثة إنسانية تتفاقم في ظل الحصار والتجاهل الدولي.
ولعل من أبرز ما أظهرته "شاهد عيان" هو ذلك التوازن بين التوثيق الإنساني والإعلامي، وبين التفاعل الرقمي عبر وسائل التواصل، حيث بذل الفريق جهودًا لتخطي الحصار الرقمي المفروض على قطاع غزة، مستخدمين الوسائل البديلة والتقنيات المحدودة المتاحة لبث المقابلات والتقارير المرئية، وإنتاج مواد باللغة العربية والإنجليزية للوصول إلى جمهور عالمي أوسع.
كما أن الحملة لم تكتفِ بتوثيق ما كان بل أطلقت دعوات مفتوحة إلى النشطاء والمؤسسات الدولية لتبنّي هذه الشهادات وتحويلها إلى ملفات حقوقية تُعرض في المحافل الدولية، ليبقى "شاهد العيان" ليس فقط راويًا، بل شاهدًا في ساحات العدالة.
قالت أفنان الشنتف في ختام حديثها: "هذه الحملة هي البداية فقط، سنواصل العمل على تطوير أرشيف رقمي موثق لكل قصة، وسنُصدر تقريرًا شاملاً يشمل الشهادات والمقابلات التي أجريناها، ليكون مرجعًا للصحفيين والباحثين وكل من يسعى لفهم ما جرى، لا من منظور الإحصاء، بل من زاوية إنسانية حيّة تنبض بالألم والكرامة والصمود".
في ظل صمت العالم وتراكم الغبار على الحقيقة، جاءت "شاهد عيان" كنبض من تحت الركام، وكأنها تقول: "لا تموت الحكاية إن نُقلت، بل تحيا في ضمائر الأحرار، وتصبح سلاحًا في وجه النسيان".