شمشون حرب غزة!

تنزيل (6).jpg
حجم الخط

الكاتب: توفيق أبو شومر

 

 

قال الروائي الإسرائيلي، عاموس عوز المتوفى العام 2018 تعليقاً على حرب العام 2008 - 2009 في غزة (عملية الرصاص المصبوب): «إن دولة إسرائيل مصابة بعقدة الشمشونية، وافقه الروائي، دافيد غروسمان، حينما أكد حقيقة وهي: «لا يمكن لإسرائيل أن تنجو من واقعها المرير إلا بإشفاء نفسها من عقدة الشمشونية الانتقامية»!

تذكرت أيضاً ما ردده نتنياهو من اقتباسات دينية عقب السابع من أكتوبر العام 2023م حين اقتطف من سفر صموئيل قال: «الآن اذهب واضرب عماليق (الفلسطينيين)، ولا تعفُ عنهم».

كثيرون نسوا أسطورة، شمشون القاضي الجبار، الواردة في سفر القضاة: «كان شمشون قاضياً لبني إسرائيل عشرين عاماً، وكان يملك قوة خارقة، لدرجة أنه أمسك ثلاثمائة من الذئاب، وعلق في ذيولها مشاعل نارٍ وأطلقها على مزارع وبيوت الغزيين الفلسطينيين (العماليق) وأحرقها»!

تقول الرواية الأسطورية، استطاع سكان غزة أن يأسروا شمشون الجبار، بوساطة الفتاة الفلسطينية الجميلة (دليلة) التي كشفت عن سر قوته والتي تكمن في شَعره، وتمكنت من حلاقة شعره حتى أفقدته قوته، غير أن شعره نبت من جديد واستطاع في نهاية حياته أن ينتحر ويهدم المعبد على رأسه وعلى رؤوس الفلسطينيين الموجودين في المعبد!

استطاع إعلاميو إسرائيل جعل هذه الأسطورة أفلاماً سينمائية عديدة للكبار والأطفال، ونسجوا منها فيلماً دعائياً العام 1949، أنتجته شركة بارامونت، وهو فيلم «شمشون ودليلة»، وقد حقق ثلاثين مليوناً من الدولارات ربحاً صافياً!

سأظل أتذكر أيضاً سلسلة المجازر الشمشونية التي رصدها، دان ياهف المؤرخ الجديد في كتابه (طهارة السلاح) في بداية الألفية الثالثة، العام 2000، عندما فُتح الأرشيف الإسرائيلي للباحثين، ثم أغلق حتى إشعار آخر، لأنه كان السبب في ولادة تيار (المؤرخين الإسرائيليين الجدد) رصد الكاتب مجازر إسرائيل في قرى الفلسطينيين، وكشف أسرار حوالى أربعين مجزرة إسرائيلية، ليس فقط مجزرة دير ياسين المشهورة، بل إن هناك مجازر أخرى أكثر بشاعة، مثل مجزرة قرية قبية، والصفصاف، واللد، وعشرات المجازر الأخرى!

هذه المجازر لم تنجُ منها مصر حين تعرضت لمجزرة مصنع أبي زعبل للحديد والصلب في شهر شباط 1970 رداً على حرب الاستنزاف، حين دمرت طائراتُ إسرائيل المصنع، وقتلت سبعين موظفاً، وعدداً مثلهم من الجرحى، كذلك مجزرة الأطفال الصغار في مدرسة بحر البقر في محافظة الشرقية، في الثامن من نيسان 1970، حين قصفت الطائرات الإسرائيلية المدرسة وقتلت أكثر من ثلاثين تلميذاً غضاً في المدرسة، وجرحت أكثر من خمسين طالباً جميلاً، وارتكبت عدداً كبيراً من المجازر في العالم العربي!

تذكرتُ أيضاً شهادة الكاتب الإسرائيلي العراقي، لطيف دوري، وهو يشهد على مجزرة كفر قاسم، الفلسطينية في شهر أكتوبر 1956، عندما أعلن جيشُ إسرائيل حظر التجول على القرية، بينما كان مزارعو القرية في حقولهم ولم يسمعوا عن حظر التجول، ولما عادوا قُتلوا جميعاً برصاص الجيش الإسرائيلي، وهم أكثر من خمسين فرداً، وهذه المجزرة المعترف بها إسرائيلياً، لدرجة أن رئيس دولة إسرائيل السابق، رؤوفين رفلين تحمل مسؤولية هذه الجريمة عندما زار القرية في ذكرى المجزرة واعتذر عن هذه المجزرة، يوم 20-10-2014! ولكنه تعرض لهجوم المكارثيين الإسرائيليين، حتى أنهم ألبسوه الحطة والعقال في صحفهم!

وفي هذا السياق لا أنسى قول، بن غوريون أول رئيس وزراء إسرائيلي عندما أعلن بصراحة وقال: «لولا مجزرة دير ياسين، لما أُسِّستْ إسرائيل»!

أبرز عددٌ من المؤرخين الجدد عقيدة الشمشونية الإسرائيلية باعتبارها مرضاً، ولعل أبرز الكُتَّاب الذين أدركوا هذا المرض الخطير هو الكاتب اليساري من تيار المؤرخين الجدد، إيلان بابيه في كتابه عن التطهير العرقي الذي أشار إلى مرض شمشونية إسرائيل الخطير: «إسرائيل دائمة السعي إلى نفي الآخرين وإقصائهم وتصفيتهم كأسلوب لبقائها على قيد الحياة».

كان، إيلان بابيه بروفسوراً في جامعة حيفا، أشرف على دراسة ماجستير للباحث، تيودور كاتس العام 1998 ووافق على منح شهادة الماجستير لهذا الباحث المجتهد، وشكره على رسالته (مجزرة الطنطورة) وهي قرية بجوار حيفا، والتي قتل فيها ثلاثمائة من الفلسطينيين الأبرياء، غير أن مكارثيي إسرائيل شككوا في هذه الرسالة، وأعادوا مناقشتها وحذفوها من الجامعة، ما دفع الباحث، إيلان بابيه للهجرة من إسرائيل إلى منفاه في بريطانيا، ولعلّ أبرز ما ورد في الكتاب الذي لم يحظَ بكثير من الاهتمام، ليس في إسرائيل وحدها، بل في العالم العربي أيضا قوله: «إن ما جرى للفلسطينيين في إسرائيل من تطهير عرقي، لم يكن عفوياً، بل كان مخططاً أرسى قواعده، بن غوريون نفسُه، فالعرب العام 1948 لم يهربوا كما زعمت الرواية الإسرائيلية، بل إنهم طُردوا بخطة مدروسة» وكان كاتبٌ إسرائيلي ثانٍ من تيار المؤرخين الجدد وهو، توم سيغف قد أشار أيضاً إلى ذلك، في كتابه (الإسرائيليون الأوائل) وأكد أن غالبية مكونات المجتمع الإسرائيلي لا تزال مصابة بمرض الشمشونية الذي يعتمد المجازر كأهم أسس بقاء إسرائيل: «عندما تمرُّ إسرائيل بضائقة سياسية أو اقتصادية، فإنها تعمدُ دائماً إلى تفجير حربٍ جديدة، لهدف تجميع قواها وتخطي عقباتها ومآزقها العديدة، كلُّ من يدرس نظامها الحزبي عن قرب يُصاب بالدهشة لأن كل السياسيين في إسرائيل من اليمين واليسار لا يمكنهم أن ينجحوا في الاستفتاءات إلا إذا كانوا ضباط جيش، أو مشاركين في الحروب الشمشونية»!