وصلتني هذه الرسالة من صديق يعيش في غزة. رسالة تحمل وجعاً لا يُمكن تجاهله، وطلب مني أن أنقلها للرأي العام، خاصة لمتابعي الإعلام الموجه الذي لا ينقل صوت المعاناة، ليفهموا أن ما يحدث في غزة اليوم ليس فقط عدواناً عسكرياً احتلالياً، بل هو عدوان اقتصادي واجتماعي وإنساني مركّب. أنقلها كما وردت، لأنها بليغة أكثر من أيّ تعليق:
«العزيز أبو خطاب،
استكمالاً لحديثنا الصباحي، ولتوضيح مشكلة السيولة في قطاع غزة التي تستنزف المواطنين إلى جانب غلاء الأسعار الخيالية، وتحملهم ما لا طاقة لهم به:
أولاً، ممارسات بعض التجار المحتكرين تبدأ بشراء سلعة ما من السوق ثم يعمدون إلى تخزينها (تعطيش السوق)، ومن ثم إخراج كميات قليلة منها (التنقيط) وبيعها بأسعار خيالية.
فعلى سبيل المثال:
كيلو الطحين: 70 شيكلاً، كيلو السكر: 200 شيكل، لتر زيت القلي/السيرج: 90 شيكلاً، كيلو الرز: 100 شيكل، كيلو الملح: 30 شيكلاً، كيلو البصل: 200 شيكل، كيلو البطاطا: 80 شيكلاً، كيلو البندورة: 60 شيكلاً، كيلو الفلفل الأخضر: 80 شيكلاً...
ثانياً، مشكلة السيولة التي لا يمكن حلها دون تدخل سلطة النقد مع البنوك لإدخالها لقطاع غزة. بعد حوالى أربعة أشهر على بدء الحرب، تم إغلاق صرافات جميع البنوك بغزة، وبالطبع أغلقت البنوك أبوابها، وبالتالي لم يتمكن المواطن من سحب أمواله إلا من خلال الصرافين أو التجار و»بعمولة» بدأت بـ2% وارتفعت تدريجياً حتى وصلت إلى 40%، أي أن المواطن يحوّل للتاجر 1000 شيكل على التطبيق البنكي ويحصل على 600 شيكل نقداً فقط، أي أن العمولة فعلياً أكثر من 40%
أضرب لك مثالاً:
لو راتب الموظف الكلي 5000 شيكل ويُصرف منه 70% أي 3500 شيكل، فإنه في حال أراد تحويلهم إلى كاش سيحصل فقط على 2100 شيكل. وهو ما لا يتيح له سوى شراء 30 كيلو طحين فقط.
أي أن راتبه، الذي يعتبر متوسطاً وليس متدنياً، لا يكفيه لشراء الخبز فقط.
أرجو من خلال موقعك كشخصية عامة وكاتب أن تشرح ذلك للمعنيين، وبالذات للنخب، لتعريفهم بما يكابده الناس في غزة، بالإضافة للقتل والقصف وهدم البيوت والسرقة والفوضى والنزوح والتجويع وهاجس التهجير... الكابوس الذي لا ينتهي».
إن من يقرأ هذه الشهادة يدرك أن الكارثة في غزة ليست وليدة خلل داخلي فقط، بل هي نتيجة مباشرة ومقصودة لمنظومة عدوان ممنهج يمارسه الاحتلال الإسرائيلي، الذي لم يكتفِ بالقصف والدمار والقتل، بل يعمل بوعي كامل على خنق كل ما يمكن أن يبقي غزة حيّة.
الاحتلال يتحمل المسؤولية الكاملة عن الانهيار الاقتصادي والإنساني:
1- هو من دمّر البنية التحتية المالية والبنكية بقصفه الممنهج لمراكز البنوك ومقارّ الشركات وأنظمة الدفع.
2- وهو من فرض الحصار الكامل على إدخال النقد والأموال والتحويلات، ومنع تحويل الأموال حتى للعائلات المتضررة أو الموظفين أو المرضى.
3- وهو من قصف الأسواق والموانئ والمعابر، ومنع دخول المواد الغذائية، ما خلق بيئة جاهزة للندرة والاحتكار.
الاحتلال لم يكتفِ بسرقة الأرض والسماء، بل يعمل اليوم على تفكيك حياة الناس من الداخل. يدفعهم إلى حافة الجوع، ثم يُترك من تبقّى منهم فريسة للتجار الجشعين.
لا يمكن تبرير سلوك بعض التجار الذين استغلوا الوضع، وخلقوا سوقاً سوداء للسلع والسيولة. هؤلاء يجب أن يُحاسبوا، ولكن لا يمكننا أيضاً أن ننسى أن هذا الجشع ظهر في بيئة فقدت كل مقومات التنظيم والرقابة بسبب عدوان إسرائيل. المواطن الغزي اليوم لا يملك شيئاً: لا سيولة نقدية، ولا سعر منطقي للسلع، ولا مؤسسات حقيقية تردع أو تحمي، ولا أمان سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي.
ما كُتب أعلاه ليس نصاً درامياً أو وصفاً خيالياً، بل شهادة من داخل الجرح. في غزة، الخبز أصبح امتيازاً، والملح يُباع وكأنه ذهب، والمرتب لا يصل للمائدة بل يُنهب قبل أن يخرج من الحساب البنكي.
أزمة الغلاء لا تأتي من قلة السلع فقط، بل من سلوك جماعات منظمة من التجار الذين يحتكرون المواد الأساسية عمداً، ليصنعوا الجوع، ثم يبيعوا الفتات بأسعار فاحشة. هذا سلوك مجرم إنسانياً وأخلاقياً، لكنه يحدث بغزة في وضح النهار، دون أي مساءلة تُذكر.
غياب النقد يعني أن آلاف الموظفين والمواطنين لا يستطيعون الوصول إلى رواتبهم أو مدخراتهم، ومع غياب البنوك وبدائل الدفع، تحولت غزة إلى ساحة مفتوحة لتجار السوق السوداء الذين يبتلعون 40% من دخل الناس، دون خجل ولا رادع.
من حق الناس في غزة أن يُحترم وجعهم، وألا يُنهبوا في كل لحظة من قِبل متاجرين بأوجاعهم، متواطئين بالصمت أو التبرير. نحن أمام كارثة مركبة: صواريخ من السماء، وسكاكين من الداخل.
ما يجري في غزة ليس «أزمة إنسانية» فقط، بل عدوان مستمر يتخذ أشكالاً جديدة كل يوم. من يجوع غزة مسؤول عن كل دمعة أمّ، وعن كل وجبة طعام حُرمت منها عائلة، وعن كل موظف لا يملك ما يشتري به الخبز. إنه عدوان يُنفّذ بالصواريخ وبالجوع معاً...
