منذ وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في فترته الرئاسية الثانية، كان في مخيلة ترامب عالمٌ آخر غير ذلك الذي صاغته القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، والذي شهد تحوّل "عصبة الأمم" إلى "الأمم المتحدة" بمجلسها الأمني ولعبة "الفيتو" بين الدول الخمس. وفي ضوء هذا التصور، ترقّب العالم "حمامة السلام" التي أراد ترامب فرضها بالقوة، وبرؤيته "الترامبية"، وبالاعتماد على قوة أمريكا المسلحة.
كانت رؤيته "أمريكا أولاً" تعني بوضوح إخضاع العالم، وفرض عملية جباية مسلّحة لصالح رفاهية المواطن الأمريكي كما وعد في حملته الانتخابية. وبالتأكيد، فإن هذه النرجسية الفائقة تأتي على حساب الشعوب النامية التي لا تملك سلاح ردعٍ يوازي الإرهاب السياسي والعسكري الذي يمارسه الرئيس الأمريكي على الدول الأخرى.
احتلت تحركات دبلوماسية مكثفة صدارة المشهد الإعلامي، من خلال مبعوثي ترامب ووزير خارجيته ودفاعه ومستشاريه للأمن القومي، وسط "كوكتيل" من التصريحات المتناقضة، التي يصعب على أي مراقب تقييمها بموقفٍ ثابت، سواء من الرئيس نفسه أو من مبعوثيه.
الرئيس الأمريكي، الذي أراد أن يصنع عالمًا جديدًا باستخدام القوة، أطلق ضربات استعراضية على مدنٍ ومفاعلات نووية في إيران، إلى جانب ضربات نفذها أسطوله البحري في البحر الأحمر ضد الحُديدة وصنعاء ومناطق أخرى في اليمن. إلا أن الاستعراض الأكبر للقوة تمثل في دعم عدوان الكيان الصهيوني على قطاع غزة وجنوب لبنان، واستخدام السلاح الأمريكي في أجواء سوريا والجولان، حيث طالت الغارات الإسرائيلية، المدعومة أمريكيًا، كل المقدرات المسلحة والاستراتيجية للشعب السوري.
"سلام القوة" الأمريكي، الذي بات يردده نتنياهو كفزاعة في المنطقة، تحوّل إلى خطابٍ يومي، حيث يتفاخر بأنه وجيشه قادران على الوصول إلى أي بقعة في المنطقة، حتى أجواء إيران ذاتها.
غير أن الاستعراض الإسرائيلي–الأمريكي بقوة ضرباته على إيران قابله رد فعلٍ إيراني مباشر، قوامه "التدمير مقابل التدمير"، ما أوصل المنطقة إلى النقطة الحرجة (Critical Point)، ومن ثمّ تم وقف إطلاق النار دون أي بروتوكول أو اتفاق، بل بفعل قوة الردع المضاد أمام سلام القوة الأمريكي.
أما غزة، فرغم كل ما جرى فيها من حرب غير مباشرة، تجلت في إثارة الفوضى والتجويع ونشاط العملاء، ومعركة إعلامية تستهدف تسليم وعي الجيل الفلسطيني وثنيه عن التفكير في جذور الأزمة، فإن الشعب الفلسطيني لا يزال صامدًا. فالعناصر الأربعة: "الحقوق، التاريخ، القدس، واللاجئون"، التي اتفق ترامب ونتنياهو على شطبها من معادلة الصراع، لا تزال حيّة في وجدان المقاومة، وما تزال رمال غزة، بهياكلها العظمية، وحصارها المطبق، مقتلةً لجنود ومعدات الجيش الإسرائيلي–الأمريكي.
العقيدة الدبلوماسية الأمريكية نشطت خلال العامين الأخيرين لتثبيت نظرية "الأمن الإسرائيلي" كقوة إقليمية وحيدة في المنطقة، وإعادة الزمن إلى الوراء عبر خطاب "الجيش الذي لا يُقهَر"، و"السوبرمان الأمني الإسرائيلي"، القادر على فرض إرادته في أي جزء من الوطن العربي والعالم. وعلى هذا الأساس، تتحرك الدبلوماسية الأمريكية، إلا أن اللعبة لم تنتهِ بعد، وعقدة الرواية لم تُصَغ حتى الآن.
من غزة إلى طهران، مرورًا بخضوع حزب الله لإرادة الدولة اللبنانية، وخروج سوريا شبه الكامل من المعادلة، تتحدث الدبلوماسية الأمريكية اليوم عن تطبيع شامل في المنطقة. بل ويتحدث نتنياهو أمام مجلس وزرائه عن إمكانية تحقيق مكاسب إقليمية إذا نجح في إعادة الأسرى من غزة، ووقف إطلاق النار لمدة 60 يومًا، وتقسيم القطاع إلى خمس مربعات أمنية، وتفريغ شمال غزة بعمق 5 كيلومترات لتأمين "خط الهند الاقتصادي". كما لا يستبعد حربًا بأدوات أخرى إذا اقتضت الضرورات الأمنية، عبر اختراقات نوعية لتلك المربعات. هذه هي خطة نتنياهو، ويتكيّف معها المبعوث الأمريكي ويتبنّاها.
وكما قلت، اللعبة لم تنتهِ، والرواية لم تكتمل. فالمقاومة، بما تملكه من إمكانيات، لا تزال ترعب الاحتلال وتستنزفه نفسيًا ومعنويًا، إضافةً إلى أزماته الداخلية التي تتفاقم. "سلام القوة" الأمريكي كان يتوقع أن تستسلم إيران، ثم غزة، فجاء الرد الإيراني العسكري على استعراض القوة الأمريكي، سواء في أجواء إيران أو في صنعاء والحديدة وجنوب لبنان وغزة، حاسمًا وقويًا: إيران قادرة على فك شفرة الغطرسة الأمريكية، ولن تنصاع.
وبينما حذر نتنياهو من ضربة جديدة على إيران وهجوم شامل على غزة، تتضح خطوط العرض والطول للأزمة في الشرق الأوسط بأنها لم تتحدّد بعد. لكن المؤكد أن التطبيع بالقوة، كما يراه ترامب ونتنياهو، لن يستقيم. فحرب غزة كشفت الجميع، وشعوب المنطقة ترى وتسمع، ولن تنسى ما فعلته إسرائيل وأمريكا في غزة. إنها بشاعة اللا-أخلاق السياسية والعسكرية، وسيبقى أثرها حاضرًا في ذاكرة الشعوب طويلًا.