الـهـدنـة الـمـرتـقـبـة

تنزيل (13).jpg
حجم الخط

الكاتب: عاطف أبو سيف


 

يقول المثل الشعبي، «اللي إيده في الميه مش زي اللي أيده في النار»، وأهل غزة كلهم أياديهم في النار فيما يبدو من يفاوض يده في ماء مثلج، لا علاقة له بمعاناة الناس. فالمواطنون يريدون لهذه الحرب أن تنتهي وللموت أن يتوقف. كتب أحد الأصدقاء على صفحته، إن رغبة الناس بهدنة لو لستين يوماً ثم تعود بعدها الحرب تشبه المحكوم بالإعدام الذي يتم تأجيل شنقه ستين يوماً، وهي فرصة، أي الستين يوماً، من أجل أن يتمتع قليلاً بالحياة وينعم ببعض الراحة قبل أن يتم شنقه. وعلى ما في مثل هذا القول من قسوة إلا أنه يعكس المدى الذي وصل إليه حال الناس.
والمفاوض الشرس صارت ملاحظاته تتعلق بدقة حول عودة الجيش الإسرائيلي لخطوط الهدنة السابقة، أو بعبارة أخرى إلى ما قبل العملية العسكرية الإسرائيلية التي أطلق عليها «عربات جدعون». صرنا نناقش ونفاوض على ما لم يكن موجوداً قبل شهرين وكان يمكن لنا تجنبه لأن هناك من يعتقد أن ما يجري يمثل انتصاراً ولم يتعلم من التجربة الإيرانية «الشقيقة» بالنسبة له، ولا من وقف الحرب بين الهند وباكستان، لا يعرف أن حماية أرواح الناس أهم بكثير مما يطرحه من قضايا، وأن الوقت ليس كالسيف بل هو سيف يجز أعناق شعبنا في غزة كل ثانية وليس كل يوم.
تخيلوا، المفاوض الذي خوّنوه وكفّروه كان يفاوض على حدود الخامس من حزيران وعلى دولة وعلى سيادة وعلى إدخال سلاح وفتح مطار وميناء، أما المفاوض الحالي فيفاوض على العودة إلى خطوط ما قبل السابع عشر من آذار 2025 وإذا حققنا انتصاراً سنخرجهم من محور فيلادلفيا ومن نتساريم، وإذ كانت الأمور أفضل ستعود الأمور إلى ما قبل السابع من أكتوبر، لتصبح المعادلة أننا قمنا بالسابع من أكتوبر من أجل أن نعود للسادس من أكتوبر.
عموماً، إذا كان الأمر كذلك، على الأقل ما يجري من مفاوضات، الآن، لا يقول غير ذلك، فإن إنهاء الحرب بأي ثمن هو أفضل للناس. اكثر شيء غريب يمكن أن تسمعه هو القول، إن «حماس» تتشاور وتناقش الورقة المقدمة من ويتكوف، فيما الجميع يعرف أن ساعة يد ترامب وعقاربها (ليست تلك الساعات التي قام بطرحها في الأسواق تحت ماركة ترامب 2025) هم ما يحكمون إيقاع الجميع. بالنسبة لـ»حماس» يجب أن تقدم ردا ويجب أن يكون إيجابيا حتى لا يزعل ترامب، لا بأس لو ظل ينتظر للدقيقة صفر، فهكذا نثبت أننا أنداء عنيدون له حتى لو كان ثمن ذلك خسارة أكثر من مائة من أبناء شعبنا يوميا. بالعودة للمشاورات، واضح أن «حماس» تشاور كل العالم باستثناء الجهة الوحيدة المعنية بالأمر، أي الشعب الفلسطيني في غزة. المعنيون بالأمر لا علاقة لهم به، والمتأثرون بالنتائج غير مسموح لهم أن يدلوا بدلوهم حين يتعلق الأمر بحياتهم.
وتظل كلمة موجعة يجب قولها، هل يمكن لأحد أن يقدم لنا تفسيراً لماذا يبدو ما يعرض على «حماس»، الآن، أفضل مما رفضته في السابع عشر من آذار قبل أن يرتقي قرابة سبعة آلاف شهيد جديد ويتم تدمير ما تبقى من القطاع، علماً بأنها نفس الورقة، بل إن مطالبنا صارت أن يرجع الجيش الإسرائيلي إلى ما قبل العملية العسكرية الأخيرة. هل لأحد أن يقدم لنا تفسيراً واحداً حتى تقر نفوسنا وتهدأ، وحين أقول أحداً فأنا لا أريد أن أسمع ضجيج مشتبكي الصالونات والمقاهي ومحللي الفضائيات لأن هؤلاء مهمتهم هي التهليل لا التفسير المنطقي.
الآن وبعد أن تم وضع الملاحظات والاستدراكات دخلنا مرحلة جديدة من التفاوض. والشعور الوحيد الذي ينتاب المرء أن الهدف الوحيد من المفاوضات هو المفاوضات، كما أن الهدف الوحيد من الطوفان هو الطوفان ومن الحرب هو الحرب، حتى أن أحداً لا يفكر فيمن يدفع الثمن، بل لا يعتبر هذا دفعاً للثمن بل أجر وثواب.
وأنا حين أقول ذلك استعيد كل النقاش حول الحوار الوطني والصياغات المتكررة التي هدفت لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية التي كانت تموت على مدارج الاستدراكات التي كانت تبرع «حماس» في وضعها لأن الهدف ألا ينتهي الانقسام. وفيما ينظر ترامب لساعة يده حتى يعلن عن الهدنة المرتقبة خلال أو بعد اجتماعه بنتنياهو فإن الناس في غزة ينتظرون على أحر من الجمر أن يتم منحهم فرصة للحياة، في المقابل فإن إسرائيل التي هشمت وكسرت كل شيء في غزة تهدد بعملية جديدة في حال فشلت المفاوضات وأطلقت عليها اسماً شبيهاً للعملية العسكرية ضد إيران.
والمفارقة حول لعبة الأسماء، أننا أطلقنا طوفان الأقصى وتوقفنا، لم نحسب حساباً لشيء بعده، حتى لو غرقت غزة، وقد غرقت، لم نتمكن من إيقاف الجنود الإسرائيليين وهم يدمرون البلاد ولا أعقنا إعادة احتلالهم لغزة، فيما الاحتلال يطلق بين فينة وأخرى اسماً جديداً على عمليته العسكرية المتجددة ضد غزة وكانت طبعتها الأخيرة في غزة «عربات جدعون» والعملية القادمة (لعلها لا تحصل) ستحمل كما ورد في الإعلام العبري «الليث المشرئب» وكانت أولى العمليات العسكرية في غزة في السابع من أكتوبر حملت اسم «السيوف الحديدية» وهي كلها أسماء ترتبط بالتوراة وبأساطيرها. في المقابل، نحن توقفنا عند طوفان الأقصى، لأن لا شيء حدث بعده حتى صد الهجوم الهمجي على غزة ووقف المذابح لم يحدث، وباتت مطالبنا «اخرجوا من شارع الرشيد» أو «انسحبوا نحو شارع صلاح الدين». طبعاً القصة ليست قصة أسماء ولكنها تعكس طبيعة الأهداف. واضح أن الهدف الفلسطيني لم يكن أبعد من صباح السابع من أكتوبر وليس بعد ذلك بساعات، ولم يفكر أحد كيف تتم حماية غزة وأهلها من الدمار والقتل والتشريد، لذلك شملنا الطوفان بمن شمل ولم ينجُ أحد. ورغم المطالب المشروعة خاصة تبادل الأسرى إلا أن الأمر بات على حساب القضية وعلى حساب حياة الناس وتضاعف عدد الأسرى أكثر من مرة، ولم يعد ثمة ضمانة لأي شيء. ولقد بلغ السيل الزبى.