المفاوضات من أجل الحرب

تنزيل (13).jpg
حجم الخط

الكاتب: عاطف أبو سيف


 

الانطباع العام بات راسخاً الآن أن المفاوضات التي تجري لا تهدف لإيقاف الحرب، على الأقل فإن الطرفين ليسا في عجلة من أمرهما كما يبدو، وأن الحقيقة أن المفاوضات التي تهدف بالأساس للتهدئة ولوقف الإبادة تطيل عمرها وتعطيها مسوغات جديدة.
كتبت مرة هنا على هذه الصحفة أن الهدف من المفاوضات هو المفاوضات، كما أن الهدف من الحرب هو الحرب.
بالنسبة لنتنياهو فإن العالم يتحدث الآن عن مواقفه من المفاوضات كما يتحدث عن مواقف حماس من المفاوضات، وبالتالي المسؤولية عن مخرجات المفاوضات متساوية، فالطرفان مسؤولان عن نتيجة المفاوضات، وهي نتيجة صفرية.
أيضاً بالنسبة لترامب فهو يرعى عملية مفاوضات من أجل تحقيق الهدوء وإنهاء الحرب وهو يريد جائزة نوبل للسلام لذلك، فبدلاً من أن يقال إنه يرسل الدعم العسكري لإسرائيل لقتل الفلسطينيين وهو يفعل ذلك باستمرار وبدلاً من أن يقال إنه شريك في حرب الإبادة، كل ما يقال الآن، أو أن أبرز ما يقال، أن الرجل يسهر ليل نهار من أجل تحقيق الهدوء ويضغط (وبشدة) على نتنياهو من أجل وقف الحرب.
النتيجة أن من يقتل الشعب الفلسطيني في غزة ومن يمده بالسلاح يسعيان للهدوء ويفاوضان من أجل وقف الحرب.
قد لا تقف، وقد لا يصلان لاتفاق، لكنهما يسعيان لإنجازه.
وفي المفاوضات، طالما قبلت أن تفاوض فعليك أن تدرك أن لا شيء في موقفك يجعله صواباً إلا كونه موقفك وبالتالي فهو، أي هذا الموقف، ليس حجة يحتج بها. ما أقصده أن موقف نتنياهو بالتمسك بحدود آذار 2025 لا يختلف كثيراً عن موقف حماس بالانسحاب إلى ما قبل ذلك.
أيضاً بالنسبة لحماس فإنها تجري مفاوضات وبالتالي تقول للجمهور إنها تفاوض من أجل إنهاء الحرب كما يقول نتنياهو لأهل الأسرى عنده إنه يفاوض لإخراج أبنائهم.
وتظل الحقيقة الغائبة أن الحرب مستمرة وأن الناس يقتلون كل يوم وأن كيلو الطحين يصل إلى 90 شيكلاً في بعض المرات، وأن من يفاوض لا يحس بكل ذلك، ولا يهمه، ولا يفكر فيه أصلاً.
من أبشع ما يمكن أن يسمعه المرء صراحة هو تعليقات مسؤولي حماس وخواطرهم عن هذه المفاوضات والتي لا تشكل فقط استخفافاً بعقول المستمعين بل أيضاً بعذابات شعبنا في غزة.
وفيما قد يطرب مستمعوهم ممن لا يدفعون أي ثمن جراء السياسات الطائشة الناتجة عن هذه التصريحات ولا المواقف الرعناء الملازمة لها، فهم ينعمون بالهتاف للقتال وللبطولة عن بعد، فإن الأبرياء في غزة الذين ينتظرون أي بادرة إيجابية تقول لهم إنهم سيصحون من النوم وقد انتهت الحرب فسيصابون بالخيبة بلا أدنى شك ويفقدون الأمل كلما سمعوا أحد جهابذة الفصائل يتحدث من فندقه الفاخر في إحدى العواصم عن الصمود والانتصار، لأنهم يعرفون مرة أخرى أن كل يوم يمضي يعني فقدان قرابة مائة منهم وإصابة مئات آخرين، ويعرفون أنهم ليسوا على بال أحد وأن موتهم لا يعني شيئاً في المفاوضات الدائرة، فهم خسائر جانبية أو أن موتهم وتشردهم قدر لا بد من تحمله.
بعض الفضائيات تمادت باستخفافها بعذابات الناس حتى أن معاناة الناس من الجوع وسرقة المساعدات واحتكارها، وهي أشياء ناتجة عن سوء إدارة الوضع الداخلي، لا يتم التطرق لها، فيما يبدو أن قتل خمسة جنود إسرائيليين أهم من تدمير الاحتلال لحي التفاح بشكل كامل بناية بناية.
وفيما العمليات فعل بطولي بكل الأحوال لكنه ليس فتحاً مبيناً ولا انتصاراً مزلزلاً وهو لا يبرر الاستمرار بحرب باتت عبثية بلا جدوى أو هدف، والدليل ما يتم التفاوض حوله. فالمفاوض المتمسك الحريص الشرس (وكل هذه الصفات بين مزدوجين) هدفه الأساس أن يعود العدو إلى حدود آذار الماضي، وربما بعد أسبوع سيطالب بالعودة إلى حدود أيار الماضي أو تموز حين يصبح ماضياً، ولكن عندها ستكون انتهت أحياء جديدة من مدينة غزة وخان يونس وتقلص حجم القطاع أكثر وأكثر.
هذا المفاوض كلما رأى تقريراً على هذه الفضائيات يشعر بزهو أكبر فهو على الأقل يقدر أن يقول «لا» بصوت أكثر ارتفاعاً لأن المعركة موجعة للعدو غير آبه بما يعانيه ويكابده أهل غزة من أي وجع.
وحتى لا يبدو المرء متشائماً كثيراً، فلو أن المفاوضات تتم من أجل إخراج جيش الاحتلال بشكل كامل، أو أننا ونحن نقول لا نمنعه من التقدم، أو أن قواته تقف عاجزة عند تخوم المدن والأماكن السكنية، لو أننا نرفق «لا» هذه بدحر قواته وإجبارها على الرجوع.
ما يحدث العكس، كل يوم نخسر المزيد من الأرض والمزيد من المواطنين والمزيد من المنشآت حتى يأتي اليوم الذي لن يكون عندنا إلا الخيام.
في الأسبوع الماضي كثرت الإشارة للمقارنات بين مفاوضات السلطة ومفاوضات حماس الحالية (رغم أنها مقارنات من الأساس غير عادلة، فالسلطة كانت تفاوض ضمن رؤية سياسية وليس نتيجة ضغط كارثي دمر البلاد) وتم استذكار موضوعات التفاوض وأهدافها.
كانت المفاوضات فيما مضى تحاول أن تزيد مساحة الأرض التي تحكمها السلطة وتوسعة صلاحيتها وإخراج الجيش منها، فيما الآن يدور الحديث عن عودة الجيش إلى خطوط أخذها خلال الحرب، طبعاً في كل الحالات لا يوجد ضمانات بأن دولة الاحتلال ستلتزم، ففي حال المفاوضات السابقة أخلت إسرائيل بالاتفاقيات وأعادت احتلال الأراضي، ولكن المقارنات التي تجري تدور حول الهدف وغايات التفاوض.
مفاوض حماس يفاوض على تموضع الجيش داخل غزة وهل سيبتلع الجيش 40 بالمائة من مساحة القطاع أم 25 بالمائة. تتذكرون العبارة الساخرة: أننا قاتلنا في السابع من أكتوبر حتى نفاوض إسرائيل للعودة للسادس من أكتوبر.
بعد أسابيع تدخل الحرب عامها الثالث ونحن نفاوض من أجل أن نعود بضع كيلومترات للوراء، الوراء الذي كان «الأمام» قبل أسابيع وسنظل نفاوض لأن الهدف هو أن نفاوض، أتمنى ألا نفاوض بعد فترة على عودة القوات لشارع الجلاء أو محور سوق فراس، وخلال ذلك لا يبقى شيء نفاوض عليه إلا فكرة المفاوضات ولا بأس من بعض اللقطات القوية يتم عرضها على الفضائيات حتى نقول «المعركة مستمرة».