رغم مرور ما يقرب من ثمانية عقود، على إقامة إسرائيل، إلا أن الطابع العسكري للدولة ما زال كما هو، وإذا كان ذلك قد بدا مبرراً أو مفهوماً، في الأعوام أو حتى العقود الأولى لإقامة تلك الدولة، بالنظر إلى أن المحيط العربي، وليس الفلسطيني وحسب، قد رفض إنشاءها، فإن استمرار الطابع العسكرتاري للدولة يؤكد أو يدلل على أن إسرائيل رغم كل تلك العقود التي مضت، لم تنجح في تغيير تلك الصفة، والتي تتأكد بشكل ساطع، كلما أقدمت على شن حرب على جيرانها، وهي فعلت ذلك بمعدل كل عقد أو كل عشر سنين - تقريبا - مرة.
وإسرائيل تعد واحدة من أعتى القوى العسكرية في العالم، وهي دولة نووية، دون أن تعلن عن ذلك، فهي تمتلك ميزة الغموض النووي، التي لا تمتلكها أميركا نفسها، فضلاً عن كل الدول النووية الثماني الأخرى، فالعالم كله يعرف أن الدول الخمس العظمى في العالم، صاحبة حق النقض في مجلس الأمن، أي أميركا، روسيا، الصين، فرنسا وبريطانيا، هي دول نووية، بل العالم كله يعرف عدد القنابل نووية لهذه الدول منفردة ومجتمعة، وهي خاضعة للرقابة الدولية، كذلك هناك كوريا الشمالية، وكل من الهند وباكستان، هذه الدول الثلاث لديها قنابل نووية بأعداد وقوة معروفة، وفقط إسرائيل، التي رغم أنها انتهت من صنع عدة قنابل نووية وذلك في مفاعل ديمونة في وسط صحراء النقب، منذ ستينيات القرن الماضي، إلا أنها أبداً لم تعلن عن ذلك، ولم تعلن عن دخول النادي النووي، كما أنها لم توقع على الاتفاقية الدولية الخاصة بالحد من انتشار السلاح النووي.
ليس ذلك وحسب، بل إن إسرائيل تمتلك سلاح جو، مشكلاً من طائرات حربية متنوعة، بدأت بالميراج والمستير الفرنسية في القرن الماضي، ثم المقاتلات الأميركية الأخطر في العالم من منظومة الفانتوم، سكاي هوك وإف 35 وإف 15، وإف 16، ذلك السلاح الذي أتاح لها تحقيق النصر الساحق والخاطف، في معظم حروبها، خاصة في حربها مع مصر وسورية والأردن العام 1967، وتمتلك إسرائيل سلاحاً بحرياً قوياً، أما فيما يخص القوة العسكرية البرية، فهي تعتمد بالأساس على الدبابات والمدرعات التي تتجاوز1500 دبابة قتال رئيسة ميركافا 3 وميركافا 4، إضافة لآلاف ناقلات الجند والعربات المدرعة، إضافة للمئات من مدافع الهاوز والهاون، والصواريخ المضادة للدبابات، كما تمتلك إسرائيل أعداداً غير معروفة من راجمات الصواريخ لضرب الأهداف بعيدة المدى، وعلى صعيد الدفاع الجوي، أظهرت حربها الأخيرة أن لديها ما لا يقل عن ست منظومات دفاع جوي، منها مقلاع داوود، وستاد الأميركية.
وعلى صعيد القوات البرية، أي الجنود، فرغم أن قوام الجيش الإسرائيلي يبلغ 170 ألفاً في الخدمة الفعلية، إلا أن هناك نحو نصف مليون جندي احتياط، فيما تشير التقديرات إلى أن الرقم يصل إلى مليون ونصف من القوة البشرية المتاحة للتجنيد، وهذا الرقم يعني أكثر من 15% من تعداد السكان، ونحن هنا نتحدث عمن يمكنهم أن ينخرطوا في القتال ميدانياً، وليس عن كل من يمكنه أن يشارك في الحرب، إدارياً ولوجستياً.
كما أن إسرائيل لديها واحد من أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم، وهي اعتمدت على «الموساد» كثيراً منذ نشأتها وحتى اليوم، ولعل كون الموساد جهازاً قتالياً قد تأكد عبر تاريخ إسرائيل.
يمكن القول، إنه مع مواصلة إعفاء الحريديم من التجنيد العسكري، وهم يشكلون نحو 14% من السكان مع معدل نمو هو الأعلى بنسبة 4%، أي باستثناء هؤلاء والعرب الذين يشكلون 21% من السكان، بما يعني أن ما يقرب من مليوني إسرائيلي يعتبرون عسكريين من أصل 65% من السكان فقط، البالغ عددهم 10 ملايين، أي ما يقارب الثلث، وهذه النسبة يمكن أن تسبب الجنون لمن يتأملها، ويقارنها مثلا بالهند أو حتى أميركا، أو أي دولة تعداد سكانها مائة مليون أو أكثر مثل مصر، هل يمكن لأحد أن يتخيل أن يصل تعداد الجيش المصري إلى 30 مليون مقاتل مثلاً ؟!
كان يمكن استيعاب هذه «العسكرة» الإسرائيلية، خلال العشرية الأولى بعد إعلان قيام الدولة، أي حتى حرب العام 1967، ويمكن أيضاً التغاضي عن ذلك وصولاً إلى مرور ثلاثة عقود على إقامة الدولة، أي حتى العام 1978، حين جرى توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر، وخرجت بموجبها أكبر وأقوى دولة عربية من حالة الحرب مع إسرائيل، لكن إسرائيل التي اعتبرت نفسها منذ قيامها في حالة حرب ناجمة عن حالة العداء ليس مع فلسطين وحسب، بل مع كل العرب، لجأت إلى الاحتماء بالقوة العسكرية، واعتمدت النوع والكم من السلاح لتعويض النقص البشري بالمقارنة مع العرب الذين تعتبرهم كلهم عدوها، لكن رغم كامب ديفيد، ورغم أن العرب بمجموعهم أو ببعضهم لم يدخلوا حرباً مع إسرائيل منذ العام 1973، ورغم أن إسرائيل ظلت تحتفظ بالجولان للتفوق الطوبوغرافي العسكري على سورية، مع إخلاء معظم سيناء من السلاح وجعلها بمثابة عازل جغرافي، أو منطقة أمنية تحميها، لأنه بالمقابل ليست هناك أرض إسرائيلية في النقب مثلاً منزوعة السلاح كما هي حال سيناء، رغم كل هذا ظلت إسرائيل على حالة «العسكرتاريا» التي نشأت عليها.
ولا تمتلك إسرائيل تلك القوة العسكرية من أجل الردع فقط، بل هي خاضت بها كل عشرية من السنين حرباً، انتصرت فيها، بل احتلت خلالها أراضي عربية إضافية، كان هذا خلال أعوام 1948، 1967، 1973، 1982، 2000، 2006، وصولاً إلى الحرب الأعظم في تاريخها الحالية، ليس لأنها فقدت فيها زمام المبادرة، من زاوية أولاً أنها لم تكن هي من حددت الزمان والمكان، وإن كانت قد هيأت له، بحصارها لغزة ما بين 2007 - 2023، الذي كان يستهدف دفع غزة للانفجار على ذاتها أو على غيرها، مصر أو إسرائيل، فضلاً عن تحقيق هدف الانقسام، وحروب إسرائيل المتتالية أضافت تأكيداً على أن إسرائيل تكاد تكون الدولة العسكرية المدججة بالسلاح من رأسها حتى أخمص قدميها الوحيدة في العالم، منذ نشأتها وحتى الآن.
ولو كانت حالة الحرب ارتبطت بقيام الدولة فقط، ولو كان تحول إسرائيل لدولة عسكرية بهذا الشكل مقصوداً منه الدفاع عن النفس، ضد العدو الفلسطيني، فسيبدو الأمر مضحكاً، ذلك أن تعداد الشعب الفلسطيني، ما بين البحر والنهر، أقل من عدد اليهود الإسرائيليين، وليس لدى الفلسطينيين، في ذروة قدراتهم التسليحية عشية السابع من أكتوبر 2023، ما يقارن ولو بنسبة 5% من القوة العسكرية التي لدى إسرائيل، فلماذا تبقي إسرائيل على حالتها هذه إذا ؟!
هذا هو السؤال الذي يفسر بأن إسرائيل ستبقى دولة غير طبيعية في الشرق الأوسط، مهما عقدت من اتفاقيات تطبيع مع دول المنطقة، فإسرائيل جعلت منذ قيامها وبإصرارها على أن تبقى على الطبيعة الاستعمارية للنشأة، كل الشرق الأوسط عدو لها، وبعد أن خاضت الحروب مع دول الجوار العربي، وبعد انخراط معظم الدول العربية، وأهمها في علاقات معها، رسمية أو من تحت الطاولة، اخترعت العدو الإسلامي، اليوم إيران ومن يدري ربما غدا باكستان أو حتى تركيا أو إندونيسيا، وهكذا تبقى دولة «إسبرطية» مدججة بالقوة العسكرية، إن كان لجهة جعل كل مواطنيها الموثوقين أمنيا، أي اليهود دون العرب جاهزين للقتال في أي وقت، أو لجهة التفوق في السلاح بنوعيته وكمه وفي كل المجالات الجوية والبحرية والبرية.
لكن منطق القوة الوحيد الذي ترى فيه إسرائيل ضمانة وجودها، وبوابة سيطرتها وتحولها لدولة إقليمية عظمى، ليس مضموناً، وإن كان قد نجح فيما مضى، بفرض وجودها نفسه، الذي صار مقبولاً حتى على الفلسطينيين، فإنه لا ينجح في توسعها الجغرافي، رغم النجاحات الأخيرة على هذا الصعيد خاصة في لبنان وسورية، وخير دليل، هو فشل جيشها في غزة، رغم أنه يواجه فقط مليوني إنسان، وأقل من 50 ألف مقاتل شعبي.