رصدت شبكةُ المنظماتِ الأهليةِ الفلسطينيةِ، أزمةً نفسيةً غيرَ مسبوقةٍ يعيشُها سكانُ قطاعِ غزة، محذرة من تداعياتِ تفاهم الأزمات الصحية والنفسية في كافة أنحاء قطاع غزة، مخلفة آثارًا مدمرة على الأطفال والنساء والفئات الأكثر ضعفًا مع استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية على القطاع لأكثر من 22 شهرا، واستمرار انقطاع الخدمات الإنسانية ونقص الغذاء والدواء منذ أكثر من 100 يوم في انتهاك واضح ومتعمد لمبادئ القانون الدولي الإنساني واتفاقية جنيف الرابعة.
وأشارت الشبكة في بيان صحفي أصدرته اليوم الثلاثاء، أن الكارثة الإنسانية غير المسبوقة على يد الاحتلال الإسرائيلي، أسفرت عن استشهاد أكثر من 60000 فلسطيني، وإصابة ما يزيد عن 150000 آخرين، من بينهم أكثر من 100ضحية قضوا جوعًا.
وبحسب بيان قطاع التأهيل في الشبكة الصادر مؤخرا، فقد خلفت هذه الحرب ما يزيد عن 32 ألف حالة إعاقة جديدة، 70% منهم من الأطفال والنساء، ما يرفع عدد الأشخاص ذوي الإعاقة في قطاع غزة بنسبة 55% إلى ما يزيد إجمالا عن 90 ألف شخص، إضافة لـ 107 ألف أو ما يعادل 12% من سكان قطاع غزة من كبار السن.
وبينت أن هناك الكثير من الإحصاءات المتعلقة بالكارثة الإنسانية التي لا يتسع المجال لذكرها في هذا البيان، وفي ظل هذا الواقع المأساوي، رصدت شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية الأوضاع النفسية الكارثية للسكان في قطاع غزة نتيجة معايشتهم اليومية لأهوال هذه الكارثة والإبادة الجماعية المستمرة وذلك من خلال تحليل وقراءة معمقة لمجموعة من الأبحاث العلمية والتقارير الأممية والمناشدات الإنسانية والتقارير الفنية التي صدرت مؤخرا عن المنظمات المحلية والدولية العاملة في مجال الصحة النفسية والدعم النفسي والاجتماعي، والتي أظهرت بشكل واضح لا لبس فيه وجود أزمة نفسية غير مسبوقة على كل الأصعدة والمستويات تعاني منها كل فئات المجتمع من أطفال ونساء ورجال وذوي إعاقة وكبار سن وغيرهم.
ونوهت إلى أن كل ما سبق، سيترك آثارا بعيدة المدى، مؤكدة في ضوء تحديثات الأمم المتحدة وتقييمات الأمن الغذائي الأخيرة على الحاجة الملحة ليس فقط للدعم الطبي والنفسي والاجتماعي، بل والأهم من ذلك، لوضع حد للعنف المستمر الذي لا يزال يدمر حياة الناس.
وأشارت الإحصاءات الرسمية إلى أن هناك قرابة مليون طفل يعيشون حاليا في قطاع غزة تحت الإبادة الجماعية، وفي حين أن الحقائق التي نشرتها منظمة اليونيسيف، تظهر أن جميع أطفال غزة يحتاجون إلى خدمات الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي بعدما كان نصفهم فقط يحتاجها قبل الحرب.
ومن جانبه، أشار برنامج غزة للصحة النفسية من خلال تقاريره إلى أن الأطفال الفلسطينيون في قطاع غزة يعانون من صدمات نفسية مستمرة ومعقدة، عبارة عن تعرض مطول ومتكرر لأحداث أو تجارب صادمة متعددة مستمرة ومتراكمة سوف تثقل قدرة الفرد على التأقلم والتكيف.
بينما أوضحت دراسة أعدها مركز التدريب المجتمعي وإدارة الأزمات الفلسطيني أن 96% من الأطفال في قطاع غزة يشعرون بأن الموت وشيك، وأن 87% من الأطفال يظهرون خوفا شديدا، بينما يعاني 79% منهم من الكوابيس.
في سياق متصل، أكدت تقارير منظمة الصحة العالمية، على أن حوالي 485,000 من السكان يعانون اضطرابات نفسية ومن ضمنهم 20,000 من هم بحاجة إلى تدخلات صحة نفسية متخصصة.
وفي محاولة لشبكة المنظمات الأهلية لتقييم مدى انتشار اضطرابات الصحة النفسية، نتيجة بيئة الخوف المستمر وحالة القلق التي أصبحت مزمنة والتعرض المتكرر لأحداث صادمة مثل النزوح وفقدان الأحباء وتدمير المنازل، تشير دراسة بحثية نشرت في يوليو 2025 إلى ارتفاع مقلق وغير مسبوق في معدلات الأعراض النفسية، حيث أظهرت نتائج الدراسة أن 72.7% من المشاركين لديهم اكتئاب متوسط إلى شديد، و65% لديهم قلق متوسط إلى شديد، بينما استوفى 83.5% منهم عتبة اضطراب ما بعد الصدمة.
بينما أظهرت نتائج تحليل البيانات الإكلينيكية للربع الأول من العام 2025 في برنامج غزة للصحة النفسية ارتفاع معدلات الاضطرابات النفسية بين الحالات الجديدة من الأطفال والبالغين مقارنة مع معدلات العام المنصرم والتي تم تشخيصها في المراكز المجتمعية الثلاثة التابعة له، حيث أن 31% من الحالات شخصت باضطرابات اكتئاب حادة، و27% باضطرابات قلق من ضمنها اضطراب ما بعد الصدمة، بينما شخصت باقي الحالات بمجموعة مختلفة من الاضطرابات النفسية منها على سبيل المثال لا الحصر اضطرابات الاعراض الجسمية-نفسية المنشأ، والوسواس القهري وغيرها.
ومن خلال التحليل الذي تم لمعظم التقارير الصادرة خلال الأشهر الماضية، نجد أن الخبراء في مجال الصحة النفسية قد أجمعوا على أن استمرار هذا الوضع النفسي المأساوي واستمرار التعرض للصدمات النفسية المتكررة سيكون لها ما بعدها من آثار عميقة وطويلة الأجل على المستوى الفردي والجمعي وستمتد عبر الأجيال القادمة.
فعلى المستوى الفردي وخاصة بين الأطفال سيؤثر ذلك على نموهم العقلي والجسدي، وقدرتهم على التعلم والتفاعل العاطفي ومهاراتهم الاجتماعية، أما عند البالغين فسيؤدي هذا الوضع إلى زيادة التوتر العصبي وارتفاع مستوى الأمراض المزمنة وضعف المناعة وظهور أعراض جسدية، إضافة إلى تصاعد السلوكيات العنيفة وفي بعض الحالات فقدان القدرة على التعاطف مع الأطفال، مما سيديم المعاناة عبر الأجيال.
أما على المستوى الجمعي، فإن هذا الأمر سيساهم في انعدام الثقة والعزلة الاجتماعية وانهيار الروابط الاجتماعية بسبب النزوح المتكرر وحالات الفقد، كما أن حالة عدم اليقين والاستقرار المطول سيخلق شعورا جماعيا باليأس واللامبالاة والتشاؤم بشأن المستقبل، كما أن الأزمات النفسية المستمرة ستحد من قدرة الأفراد على التعافي، والتخطيط، والاستثمار في التنمية الشخصية أو المجتمعية.
وأكدت الشبكة، وسط هذه المؤشرات الخطيرة حول واقع الصحة النفسية للسكان في قطاع غزة والحاجة المتزايدة لخدمات الدعم النفسي والاجتماعي بكل أشكالها ومستوياتها، على الدور البارز للمنظمات الفلسطينية المحلية والمؤسسات الأممية والدولية والتي تعمل ضمن شبكات وتحالفات مختلفة، والتي لا تزال تقدم خدماتها النفسية والاجتماعية للسكان المتضررين والنازحين في كل المناطق في ظل تحديات هائلة ومعيقات كثيرة تتعلق بسلامة الطواقم وقيود الحركة ونقص المواد والمستلزمات ودمار المقار الرئيسية لمعظم هذه المؤسسات، حيث سعت هذه المنظمات إلى مواصلة العمل بكل تفان واستطاعت الوصول إلى مئات الآلاف من المتضررين خلال الاثنين والعشرين شهرا الماضية تحت القصف الشديد وأحداث الإبادة المستمرة، والتي قدمت خدماتها المختلفة في مستويات أولية وقائية مثل التوعية النفسية والإسعاف النفسي الأولي والإرشاد النفسي، وأيضا في مستويات تخصصية شملت العلاج النفسي المتخصص والأدوية.
وقالت في بيانها: "لا نستطيع أن نغفل جانب مهم من التحديات النفسية التي يواجهها العاملون والعاملات في مجال الدعم النفسي-الاجتماعي والصحة النفسية، والذين يتعرضون أيضا كغيرهم من السكان للاستشهاد والإصابة والنزوح والجوع والصدمات النفسية المتكررة نتيجة فقدان أحبائهم وممتلكاتهم وغيرها من حالات الفقدان والأحداث الصادمة".
وشددت، على أهمية توجيه برامج رعاية وإشراف مهني متخصصة لهم تساعدهم على استمرار تقديم خدماتهم المهمة من خلال منظماتهم المختلفة.
وفي ختام البيان، ناشدت شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية كافة الدول وجميع المنظمات الدولية والإنسانية بالوقوف عند التزاماتها القانونية والإنسانية، واتخاذ إجراءات فورية وفعالة للعمل على وقف العدوان الإسرائيلي ورفع الحصار وإدخال البضائع والمساعدات ووقف سياسات التجويع الممنهجة وضمان حماية السكان وتمكينهم من الوصول الآمن للغذاء والدواء والرعاية الصحية، كما تطالب الشبكة مواصلة دعم قطاع الصحة النفسية والدعم النفسي والاجتماعي لتلبية الاحتياجات المجتمعية المتفاقمة في هذا المجال الحيوي والمهم.