تتصاعد حالياً إمكانية التوصل إلى ما يسمى بـ "الصفقة الشاملة"، التي قوامها وقف إطلاق النار، والافراج عن جميع الأسرى الإسرائيليين مقابل عدد من الأسرى الفلسطينيين. فعلى ما يبدو، تتجمع الرغبة في ذلك عند مختلف الأطراف، كلٌ لدوافعه وأهدافه، بما فيها إدارة ترامب، والأطراف العربية، وحتى نتنياهو، لتفادي زيادة تعقيد المشهد باحتلال إسرائيل المرتقب لمدينة غزة، ثم المخيمات الوسطى. ومع هذه الإمكانية عاد الاهتمام بموضوع "اليوم التالي"، أي ترتيبات حكم غزة، ليطفو على الساحة، وبقوة هذه المرة.
موضوع حكم غزة دقيق وحساس، يثير الكثير من القلق والتحسّب عند مختلف الأطراف ذات الاهتمام والمصالح المتباينة، وضمن تقسيمات كل طرف، خاصة لدينا نحن الفلسطينيين، الذين نعاني ليس فقط من تبعات إجراءات الاحتلال الإسرائيلي في الحرب على غزة واستهداف ممنهج للقدس والضفة، ومن ارتهان شؤوننا لازدحام مفرط من تدخلات أطراف دولية وإقليمية، وإنما أيضاً من وهن أوضاعنا الذاتية نتيجة التبعثر الناتج عن انقسام مزمن بين أطراف متناحرة. لذلك ليس من المبالغة اعتبار أن ترتيبات مسألة هذا الحكم أصبحت أمراً أساسياً يفوق تقرير مستقبل القطاع، ليكون المدخل لتحديد مستقبل القضية الفلسطينية. وعلى هذا الأساس، تُصبح المعالجة الفلسطينية للموضوع ذات أهمية قصوى، إذ سينجم عنها تبعات سيكون لها آثار مستقبلية عميقة. بالتالي، لا ينفع أن يستمر استناد معالجة هذه المسألة الجوهرية على استمرار المناكفات التقليدية والتراشقات الإعلامية، التي تجتر المواقف السياسية النمطية، فمعروف أن ذلك لن يُنتج نتائج إيجابية. بل المطلوب بإلحاح هو الذهاب في مسار مختلف، يُفضي إلى تحديد موقف فلسطيني واضح ومحدد، يكون متفقاً عليه داخلياً، لأن ذلك أصبح شرطاً أولياً لإتاحة الإمكانية لتنظيم وفتح مواجهة لصد ما أمكن من الضغوط العارمة الوافدة علينا من الخارج.
من الضروري الاستيعاب سريعاً أن شأن حكم غزة ليس في جوهره شأناً متعلقاً بانتقاء شخص أو مجموعة أشخاص ليقوموا بأداء المهمة، فهي ليست مجرد وظيفة تقنية، بل بتحديد مجرى سياق ترمي من خلاله الأطراف لتحقيق أهداف من وراء هذه المهمة. ولكي يتم التمكن فلسطينياً من التأثير في هذا المجرى، من الضروري الانتباه إلى المحددات التالية:
أولاً، أن خروج الشأن الفلسطيني عن السيطرة الفلسطينية، وتدخُّل أطراف دولية وإقليمية عديدة ذات اهتمام ومصالح فيه، من جهة، وارتهان تسوية علاقاتها مع بعضها بالتوصل إلى مقاربة مقبولة لكل الأطراف بخصوصه، من جهة أخرى، يُضعف قدرة كل طرف منها، بما فيها الطرف الفلسطيني نفسه، على تحقيق كامل أهدافه. معنى ذلك أن جميع الأطراف مطلوب منها القيام بتنازلات متبادلة. الدليل على ذلك أن إسرائيل لم تتمكن، رغم مسلسل القتل والتدمير المستمر في غزة على مدى عامين، من فرض إرادتها وتحقيق كامل أهدافها.
ثانياً، أن الطرف الفلسطيني، مع أنه الأضعف حالياً في معادلة القوى المتشابكة والأكثر استهدافاً لها، وفقَد لصالح آخرين قدرةَ الإمساك بخيوط مستقبل قضيته، إلا أن ذلك لا يعني، كما يتوهم البعض، بأنه أصبح رهينة سياق يجب عليه أن يستسلم له، ويقبل ما يُملى عليه. فبما أن لا طرف من الأطراف المتدخلة في الشأن الفلسطيني لا يملك كامل القوة لفرض إرادته، فإن كل طرف منها، بما فيها الطرف الفلسطيني، يملك جزءاً من هذه القوة. لذلك، فإن مطلب الانصياع إلى الإرادات الخارجية ليس قدراً لا راد له.
ثالثاً، يجدر التوصل فلسطينياً إلى البديهية التي تقول "عندما تهب الريح العاتية على شجر الغابة، فإنها لا تُسقط منها سوى المنخور بالسوس". إن السبب الرئيس لحالة الوهن والإعياء التي نمر به لا يتوقف عند حدود الاستهداف الخارجي لنا، فهذا أمر كان دائماً موجوداً وممارساً ضدنا، بل يعود إلى التشرذم الذاتي الذي سمح لهذا الاستهداف أن يمر عبر الشقوق. وبواقعية مجردة، لم يعد بالإمكان إنهاء الانقسام المتجذر وتحقيق الوحدة الوطنية المنشودة منذ قرابة العقدين من الزمن. ولكن هذا لا يمنع الأطراف الفلسطينية من التوصل لتفاهمات، حتى ولو بشكل ضمني، تحدد أسس الموقف الفلسطيني. لم يعد موضوع التوصل لهذه التفاهمات، التي يجب أن تأخذ كافة المعطيات الموجودة حالياً بكامل الاعتبار، ترفاً يمكن الاستمرار بالمناكفة بشأنه، بل هو ضرورة إن أريد للموقف الفلسطيني أن يكون مؤثراً. وهذه مسؤولية تقع علينا فلسطينياً، أي على كل طرف فلسطيني متخندق حالياً على موقفه، وليس على أي طرف خارجي.
قبل الانهماك في حيثيات مسألة حكم غزة، من جهة تحديد الجهة والأشخاص الذين ستوكل لهم المهمة، ولكي لا يتحول هذا الحكم إلى أداة تعمل ضد المصلحة الفلسطينية، وليس لتحقيقها، يجدر بالموقف الفلسطيني أن ينطلق من أساس عام يقوم على عدم الموافقة على الذهاب إلى مسار متدرج مفتوح من الإجراءات المطلوبة من الجانب الفلسطيني، مع ترك أمر القرار بيد إسرائيل. هذا يعني ضرورة قلب المسار ليبدأ من الالتزام بالنهاية التي سيتم الوصول لها، مع وجود ضمانات بذلك، ثم تحديد الخطوات التي ستُنفذ لتحقيق الوصول، ومواعيدها، على أن تكون الخطوة الأولى ذات مضمون ومغزى مهمين، فيهما ما يكفي من الضمانة لعدم إيقاف إسرائيل للمسار. لا يجوز فلسطينياً عدم التعلم من أخطاء الماضي، وترك الأمور تنساب على مراحل تتحكم بها إسرائيل، فقد تمت تجربة ذلك وفشلت في تحقيق ما كان مأمولاً فلسطينياً. باختصار، المطلوب أن لا تتوقف "الصفقة الشاملة" عند حدود قطاع غزة، بل تكون تسوية شاملة للقضية الفلسطينية. من أجل ذلك، من الضروري أن يتم التأكيد على الأسس التالية:
أولاً، أن ترتبط مسألة حكم غزة عضوياً بإنهاء الحرب على قطاع غزة وليس مجرد وقف مؤقت لإطلاق النار، فهذه أولوية قصوى يجب التأكد من تحققها، وعدم ترك إمكانية استئناف الحرب بيد إسرائيل. ولكن مع وقف الحرب على غزة، من الضروري أيضاً ضمان توقف الإجراءات الاحتلالية في الضفة، كون الضفة هي المستهدفة استراتيجياً بالضم من قبل إسرائيل، وإذا تم التغاضي فلسطينياً عن هذا الأمر، سيكون تهويد الضفة وضم معظم أراضيها لإسرائيل أمراً ناجزاً.
ثانياً، لا يجوز أن تؤدي ترتيبات حكم غزة إلى تأبيد فصل الضفة عن القطاع، والتي كان محرك سياسة نتنياهو طوال فترة وجوده في رئاسة الوزراء. يؤدي تكريس هذا الفصل إلى إغلاق إمكانية التوصل إلى تسوية سياسية بأدنى الشروط الفلسطينية. وإذا لم يتم إحكام ربط حكم غزة بوحدة إقليمية ناجزة مع الضفة، فإن مشروع الحكومة الإسرائيلية اليمينية في إلغاء الكيانية الفلسطينية سيتحقق.
ثالثاً، إنهاء الحرب على غزة لن يتم دون انسحاب إسرائيلي شامل من القطاع، وضمان فتح المعابر، وإدخال كميات غير محدودة من المساعدات، وانطلاق عمليات إعادة الإعمار. هذه قضايا أساسية لمنع طرد الفلسطينيين أو تهجيرهم قسرياً، فهذا موضوع يجب أن يُغلق نهائياً، وينتهي بانتهاء الحرب، وأن لا يُترك لإسرائيل إمكانية للسيطرة عليه، وإلا سنجد في المستقبل أن الاضطرار سيدفع بأعداد كبيرة من أهل القطاع إلى خارجه.
إن أي موقف فلسطيني يتساهل بشأن هذه الأُسس سيؤدي إلى نتائج ذات أثر سلبي بعيد المدى على القضية الفلسطينية وعلى الحقوق الوطنية الشرعية للشعب الفلسطيني. قد يقول قائل، وأظن أن كثيرين سيقولون، أن ليس بمقدورنا، ونحن نجابه كل هذه الضغوط، أن نرفع سقف مطالبنا. الجواب على ذلك أن هذه الأسس هي بالكاد تحقق الحد الأدنى للمطالب الفلسطينية.
عوضاً عن الانشغال بـ "فقاقيع" من سيحكم غزة، والانشغال بمناكفات إعلامية، والتندّر على ذلك في لقاءات المقاهي، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، من الأفضل أن ينهمك الجميع بمحاولة جادة لإخراج موقف فلسطيني واضح الأسس بهذا الخصوص.
