في كل مرة يتجدد فيها الحديث عن مفاوضات التهدئة بين «حماس» وإسرائيل، يعود النقاش إلى نقطة الصفر التي لا يعرف أحد إلى أين تقود: ماذا تريد «حماس» حقاً؟ لا يستطيع أحد أن يزعم أنه يعرف ماذا تريد «حماس» وما هي حقيقة مواقفها، والأهم ربما من كل ذلك إذا ما كانت تضع حقاً مصلحة الوطن وغزة والمواطنين فيها قبل أي اعتبار. ويمكن لاستفتاء صغير وسريع في غزة أن يقول الكثير عن قناعات الناس هناك حول خيارات «حماس» وأولوياتها. إذ إن القناعة السائدة أن أولوية «حماس» هي «حماس»، وأن وجود الناس ومعاناتهم ليست في وارد حساباتها حين تصول وتجول في مفاوضات مع الطرف الإسرائيلي.
خلال المتابعة المستمرة لمجريات تلك المفاوضات التي لم تتوقف، فإن المرء لا يمكن أن يجد جملة سياسية أو اجتماعية واحدة صدرت عن قيادة «حماس» تعير معاناة الناس انتباهاً. إذا كانت هذه المعاناة لا تؤثر على قرارات «حماس»، وإذا كان الواقع المادي في غزة وبؤس الحياة فيها لا يؤثران على تلك القرارات، وإذا كانت إمكانية إفراغ غزة لا تؤثر في صناعة الخيارات البديلة، وإذ كانت حقيقة أن قرابة مائة ألف من أبناء غزة إما هم شهداء أو مفقودون ومئات الآلاف غيرهم جرحي أيضاً لا يدخلون في ميزان القرار، فما الذي يصوغ موقف «حماس» تحديداً؟
تبدو الإجابة عادية وبسيطة بالنسبة لكل وطني حقيقي غيور لا يتعامل مع غزة على أنها نشرة أخبار، أو «حدث أمني» ممتع يتم قنص جندي فيه ويتم تسويقه على اعتبار أن قتل الجندي أكثر أهمية من استشهاد مائة فلسطيني، وأن إعطاب دبابة عبر تقنية الفيديو والمونتاج أكثر إثارة من تدمير حي الزيتون، وأن تصريح مسؤول مجهول الهوية في الجيش الإسرائيلي بأن الجيش يعاني (لغايات دعائية) مدعاة للتباهي، فيما صرخات آلاف النساء والأطفال والشيوخ لا تعني شيئاً، وأن إسقاط طائرة زنانة انتصار عظيم، ولكن التذكير بِكم من المواطنين قتلت تلك الزنانة أمر غير مهم، وأن كل شيء يجري في غزة ليس أكثر من جلسة مسائية في المقهى مع الأصدقاء من أجل التغني بالبطولة، ومديح الصمود الأسطوري، والحديث عن وعود لم تتحقق. بعبارة أخرى، إن من يتعامل مع غزة من خلف شاشة التلفاز بالطبع، ينسى في نهاية اليوم أنه كان يشاهد معاناة ناس ميتين مع وقف التنفيذ. وعليه فإن الإجابة عن السؤال الكاشف للزيف: «ماذا تريد حماس؟».. تظل مخفية ومحجوبة؛ لأن أحداً لا يريد أن يواجه نفسه بالحقيقة.
«حماس» لا تريد إلا مصلحة «حماس» وبقاء «حماس». هل هناك من يشك في ذلك؟ «حماس» لا تفاوض إلا على اليوم التالي وترتيبات المساعدات، وتسعى إلى تأمين نفسها بعد انتهاء الحرب. «حماس» تعرف أن الشعب سيقوم بسؤالها بعد انتهاء الحرب عن المغامرات التي ظلت تقوم بها منذ عقدين من الزمن، والتي لم تجلب للناس إلا المزيد من المعاناة. وإذا كان هناك من يريد أن يطرب قليلاً، فالاحتلال قاتل ودموي وفاشي وهو لا يريد عذراً وليس بحاجة لتبرير لقتلنا، لكنّ ثمة سطراً صغيراً يجب أن يسبق كل ذلك يتحدث عن مسؤولية «حماس» في المساعدة في وقف كل ذلك. تتذكرون كيف كانت «حماس» تطلق النار على مطلقي الصواريخ على إسرائيل دون علمها، وكيف كانت تسجنهم وتعذبهم، ونحن من زج بنا في سجون «حماس» من أبناء حركة «فتح» شاهدنا المعذبين بأعيننا، وسمعنا صراخهم، وسبب ذلك أنهم أطلقوا الصواريخ دون علم «حماس»، لأن أي غاية من «الجهاد» يجب أن تخدم الأجندة الحمساوية. وأيضاً تم منعنا أكثر من مرة من الذهاب للتظاهر قرب السلك الحدودي لبلادنا المسلوبة بعد أن تقبض «حماس» ثمن إسكات التظاهرات من حقيبة السيد العمادي. لا جهاد إلا لخدمة أجندة «حماس». حتى أن قيادة «حماس» استخدمت عبارات «فجة» في وصف أي جهاد خارج قرارها. وعليه فغاية المفاوضات خدمة أجندة «حماس» وليس وقف معاناة الناس. ليتوقف الواهمون بغير ذلك عن خداع أنفسهم.
على صعيد مختلف، حاولت «حماس» خنق الحياة وتقييد الحريات في غزة. ولعل رفاق «حماس» وحلفاءها في الجبهة الشعبية يتذكرون كيف ناضلنا سوية من أجل منع «حماس» من تغيير اسم مدرسة غسان كنفاني في رفح ووقفت «فتح» قبل «الشعبية» بقوة في وجه الخطوة حتى تم منع ذلك.
لقد قامت «حماس» بسابقة في التاريخ لم يرتكب إثمها أي تنظيم آخر أو أي جهة سياسية أو عسكرية أخرى قبلها في أي مكان آخر في العالم. سيسجل التاريخ أن «حماس» أول تنظيم يقوم بالتضحية بشعبه من أجل بقائه. تظهر التنظيمات من أجل الدفاع عن الناس، وحين يتعارض وجودها أو تتنافى مواقفها مع مصالح الوطن والناس يصار للانحياز للوطن، إلا عند «حماس»، فـ»حماس» أهم من الجميع، وهي أهم من فلسطين، وأهم من غزة، وقيادتها أهم من أكثر من مليونَي فلسطيني يواجهون الموت وينتظرون أن يتم نفيهم خارج البلاد. لا شيء أكبر من «حماس» إلا «حماس». هذا هو لسان حال المفاوض الحمساوي وهو يتنقل بين فنادق العواصم المختلفة. ولاحظوا أن قيادة «حماس» ستكون أكثر جهة فلسطينية في التاريخ عاشت في فنادق عواصم العالم، فهي تقريباً تعيش في الفنادق وتتنقل بينها، وكل هذا باسم فلسطين وباسم غزة التي تذبح؛ لأن «حماس» قررت أن تبني مجداً على حساب الشعب المقهور والمغلوب على أمره.
أيضاً نجحت «حماس»، عبر الممارسات غير المحسوبة، في دفع العالم لتجريم النضال الفلسطيني. انتبهوا، «حماس» بالنسبة لكل دول العالم الغربي حركة إرهابية، وبقدر نقد الغرب وغضبه وسخطه على جرائم الاحتلال بقدر إصراره على تجريم «حماس». الغرب ظالم ووقح ومنحاز للاحتلال، ولكن هذا لم يحدث قبل ذلك حيث انتبهت فصائل الثورة إلى الكثير من النقاط التي نجحت في تقديم نضالنا الوطني ككفاح تحرري، وليس فعلاً إرهابياً ومجرد قتل بلا سبب. هناك الكثير الذي علينا فعله بعد هذه الحرب.
ولكن لأنه لا أحد يعرف كيف ستتصرف «حماس»، ولأن الجميع متيقن أن مصلحة «حماس» فوق كل اعتبار، فلا يملك المرء منا إلا أن يدعو الله أن تظل غزة كما ظلت بعد النكبة.