لبنان في قلب الخطر!

تنزيل (1).jpg
حجم الخط

الكاتب: عبد المجيد سويلم

 

أذكر أنني كنت قد كتبت مقالاً في «الأيّام» قبل سنوات عدّة، ربما أربع أو خمس، بأن سقوط نظام بشار الأسد سيؤدي إلى سقوط لبنان بالضرورة، أما إذا تكرّست وتعزّزت إلى غير رجعة إستراتيجية النظام السابق، وتمّت هزيمة المشروع الغربي، والمقصود المخطّط الأميركي الصهيوني، بمشاركة ودعم فرنسي مباشر، فإن الدولة اللبنانية ستنهار، لأن «الغرب» لا يهمّه من لبنان، وفي لبنان، سوى مشاغلة النظام السوري، وإذا فقد لبنان هذه «الميّزة» من وجهة النظر «الغربية» تصبح الدولة اللبنانية عبئاً، وحمولةً زائدة على «الغرب».
كان هدف المقال في حينه أن يستقرئ مصير لبنان في ضوء معطيات الصراع في سورية وعليها، وفي ضوء دخول عناصر مؤثّرة جديدة على خارطة ومعادلة الصراع، منها الاحتقان الطائفي بمدينة طرابلس في شمال لبنان، وبدء نشاط الجماعات الإرهابية، من قبيل «داعش» و»النصرة» وأخواتها، في بعض المناطق اللبنانية، ومنها بصورةٍ خاصة تأكيد ثابت بالوقائع والمعطيات مفاده أن المعارضة الوطنية، والوطنية الديمقراطية، في سورية قد أخلت الطريق أمام الجماعات الإرهابية التي مثّلها «جيب إدلب» المدعوم تركياً، و»الجيب الكردي» المدعوم أميركياً، وإلى حدٍّ ما إسرائيلياً، ثم بدء تشكّل مجموعات جديدة في درعا والسويداء.
أي أن سقوط النظام السوري السابق كان يعني بالضرورة تحويل سورية إلى مركز للإرهاب الدولي تحت مسمّيات جديدة، وكان يعني أن على «الغرب» والعرب على حدٍّ سواء المسارعة الفورية إلى «تبييض» صفحة النظام الجديد، وقد تم الآن بتعاون عربي خليجي أوّلاً، وأميركي إسرائيلي مباشر.
سقط النظام السابق، وهربت قياداته، وخرجت إيران، ووافق «حزب الله» اللبناني على وقف إطلاق النار، وتم التوافق الأوّلي على أولوية الانسحاب الإسرائيلي، ووقف الاعتداءات على الأراضي اللبنانية، وقبل الحزب ببحث حصرية وجود السلاح في يد الدولة بعد أن تعهّدت الولايات المتحدة الأميركية بمسار وقف النار والاعتداءات، والانسحاب، والانتقال مباشرة إلى تسليم سلاح الحزب للدولة اللبنانية.
تغيّرت المواقف الأميركية بعد وقف إطلاق النار، وتوقُّف الحرب على إيران، وطلبت التمديد وراء التمديد، والذريعة وراء الأخرى إلى أن وصلنا إلى إعلان أميركي جديد مفاده أن أميركا لم تعد قادرة على الإيفاء بوعدها بالضغط على دولة الاحتلال، وأنّ على الحزب أن يسلّم سلاحه أوّلاً، بل وحتى في هذه الحالة ليس لدى أميركا من ضمانات جديدة لأحد، لأن المسألة ستخضع للاعتبارات الملموسة، وهي اعتبارات أمنية تحدّدها دولة الاحتلال أوّلاً وأخيراً.
هنا نفتح قوساً للتذكير بثلاث مسائل لها أهمية خاصّة:
الأولى، أن الهجوم الأميركي الإسرائيلي التركي، والمموّل بالكامل من قطر العظمى، قد تم بعد أيام فقط على وقف إطلاق النار في لبنان.
والثانية، أن نظام المتحوّرات «الداعشية» بدمشق كان في غاية المرونة والعقلانية في كل شيء، وأساساً، وقبل كل شيء، في التعامل مع كل التجاوزات الإسرائيلية التي تخطّت كل الخطوط الحُمر، من تدمير كل مقدّرات سورية العسكرية، وكل البُنى التحتية الخاصّة بهذه المقدّرات، ومن تجاوز كل خطوط الهدنة بعد حرب أكتوبر 1973، ودخول ثكنات «جبل الشيخ»، والاستيلاء على أراض جديدة في الجولان، وفي منطقة درعا والسويداء.
كل هذا لم يَعنِ شيئاً لحكّام دمشق القادمين من «إدلب» بقوّات «متعدّدة الجنسيّة» على مستوى جديد من «الأممية» الجديدة، والعاملة تحت لواء «داعش» و»النصرة».
أما الثالثة، فهي أن النظام الجديد الذي «تأرنب» في مواجهة دولة الاحتلال أعلن أن هدفه الأوّل والأسمى والأعلى هو التصدّي لـ»حزب الله»، وإيران، والشيعة بلا هوادة، ومهما كلّف الأمر.
نعود الآن إلى توم باراك، المبعوث الأميركي، إذ لم يتردّد عن تهديد الدولة اللبنانية علناً بنظام الشرع، عندما ألمح إلى «الخطر» الذي يمكن أن تصل له الأمور إذا ما «تمّ» إلحاق مدينة طرابلس بالنظام الجديد الذي يحبّون أن ينعتوه بالنظام الأموي، وعندما ألمح أن «سايكس ــ بيكو» لم يعد مقدّساً، وقد يصبح لبنان جزءاً لا يتجزّأ من «بلاد الشام».
ما كان منّا أن انقسمنا، نحن معشر الناس في البلاد الشامية، بين من ذهب تفكيره إلى مقولات القائد الخالد أنطون سعادة، في حين ذهب تفكير بعضنا الآخر إلى «تنظيم الدولة الإسلامية» في بلاد الشام والعراق..!
بصورةٍ مباغتة، وبما يثير كل استغراب واستهجان، استجابت الحكومة اللبنانية للورقة الأميركية، ولم تخجل بالتصويت عليها كما سُمّيت ووُصفت، ومن دون أي شعور بالخجل أو الإحراج!
بل ووصل بها الأمر الحديث عن مهلة زمنية قبل أن تبدأ مسار تجريد الحزب من سلاحه، متجاوزةً ما كانت تقوله هي، وبعظمة لسانها، من أن مسألة السلاح متروكة إلى ما بعد الالتزام الإسرائيلي، وإلى ما بعد الإيفاء بالتعهّدات الأميركية، وواضعةً لبنان كلّه أمام خطر الاقتتال الداخلي، باختصار غدرت الحكومة اللبنانية بالحزب، وتنكّرت لكل ما كانت تقوله، والحقيقة أن لبنان كله أصبح مغدوراً، وأُحِلّ دمه إرضاءً للأميركيين والإسرائيليين، وبعض العرب الذين عادوا ليرموا بكل ثقلهم وراء الحكومة اللبنانية التي بدت خفيفة وواهنة وضعيفة.
باراك أوقع نظام الجولاني في فخّ لعين، وأوقع الحكومة اللبنانية في فخّ أسوأ من فخ الجولاني، وألعن منه.
بعد واقعة السويداء حُدّد لنظام الجولاني مهمّة واحدة ووحيدة، وهي الاستعداد للمعركة «الفاصلة» ضد الحزب في لبنان، والتأليب الطائفي لإعادة توجيه المعركة نحو الصراع السنّي الشيعي بعد أن تمّت تنحيته كلياً في الحرب الأخيرة، بكافة فصولها وساحاتها، والتحضير لخوض معركة «فاصلة» أخرى في العراق ضد «الحشد الشعبي» إذا لزم الأمر، والاكتفاء بالسيطرة على دمشق وحمص وحماة، وبعض السيطرة على حلب، وهذه هي حدود الولاية السياسية للنظام الجديد، مقابل الاستمرار في مسار رفع العقوبات، ودمج «القوات المتعدّدة الجنسية الإسلاموية» في الجيش المستقبلي للنظام الجديد، ومقابل غضّ الطرف كلياً عن أي تجاوزات ضد الطوائف الأخرى كلها، العلوية والكردية والدرزية والمسيحية. وترك الجدول الزمني لأي استحقاقات سياسية أو «ديمقراطية» مفتوحاً إلى أن يشاء الله.
هل قبل النظام بكل هذه الشروط؟
الجواب: نعم. وما دار في العاصمة الأذرية باكو أكبر من أن ينفيه النظام.
بقيت مسألة واحدة فقط، وهي حدود علاقة النظام بالدولة التركية، لأن الأخيرة نفسها لم تحسم نهائياً هذا الأمر.
أمّا الفخّ في لبنان، فقد وضع الحكومة أمام خيار أوحد، ولا يوجد غيره أيّ خيار آخر، وهو الدخول في حرب داخلية مع الحزب بوساطة الجيش اللبناني، وإذا فشل فسيتمّ زجّ «17 ألف مقاتل» - تذكّروا هذا الرقم جيداً - من الميليشيات المسيحية إلى جانب من يتبقّى على استعداد لقتال الحزب، وليذهب لبنان إلى الجحيم، لأن أميركا ستعيد الكرّة في الحرب على إيران، ونظام الجولاني بات جاهزاً لدعم كل من يقاتل الحزب والشيعة في لبنان، والتحضيرات للعودة إلى حرب جارية كهذه على قدمٍ وساق، ورئيس حكومة الإبادة بنيامين نتنياهو يهدّد كل من لا يقبل «بنتائجها» بعد «الانتصار النهائي» فيها، بما في ذلك تهجير ملايين الفلسطينيين من قطاع غزّة ومن الضفة الغربية، وحتى من الداخل الفلسطيني سيكون مصيره كما كان مصير غزّة والضفة ولبنان.
نتنياهو يهدّد بـ»إسرائيل الكبرى» ليتمكّن من العودة إلى الحرب الشاملة بدءاً من غزّة، ومروراً بلبنان، فإلى العراق واليمن، وأخيراً إيران.
باختصار، إن معركة وجودية تُفتح من جديد، أو إن دولة الاحتلال تتوعّد بها لأنها فهمت أن وقف الحرب العدوانية تحت أي صيغة في هذه الظروف هو بمثابة إعلان هزيمة مدوّية.
يبدو أن ملفات الفضائح ضد دونالد ترامب قد تمّ ترتيبها بعناية من قبل اللوبي الإسرائيلي لإخضاع الأخير نهائياً، ولإعطاء نتنياهو «حرّية» الحركة، ويبدو أنه لا مجال لترامب إلّا أن ينأى بنفسه قليلاً حتى يرى ماذا سيفعل نتنياهو.
هذه معركة يُراد منها استفزاز الوجود الشيعي كلّه وتهديده وجودياً، وقد جاء علي لاريجاني ليحذّر من هذا الخطر، ويبدو أنه قد أبلغ كل من يهمّه الأمر بصريح العبارة والقول، وقد أجاب، أمس، رئيس أركان جيش الاحتلال إيال زامير نفسه عن سبب زيارة الأخير، عندما قال: «معركة غزّة» جزء من الحرب الممتدة الجديدة ضد الحزب، وضد إيران. أما الأخيرة هذه المرّة فلن تسمح بما سمحت به في الحرب السابقة حروب لا تنتهي، والعرب يقعون في ذات المطبّ في كل معركة من معاركها. ولبنان مع الأسف ضحيّتها الأولى، ومسيحيُّو لبنان مع كل أسف سيدخلون في نفس النفق السابق بدلاً من أن يكونوا أوّل المعارضين للانخراط بها، لأن الخطر عليهم ليس أقلّ من الخطر الذي يحدق بالطائفة الشيعية.
بعض سُذّج «السنّة» يعتقدون أنهم محميّون من «دواعش» الجولاني، والدروز يعتقدون أنهم بمنأى عن الخطر، لكن كل هذه الحسابات واهمة؛ لأن معركة التهديد الوجودي للشيعة في لبنان والمنطقة كلّها أكبر من العقول الصغيرة التي تعبث بالنار.