استراتيجية الاعتراف بالدولة الفلسطينية لا تكفي

ugr5e.jpg
حجم الخط

بقلم هاني المصري »

إذا لم يطرأ ما يمنع، من المتوقّع أن تعترف بدولة فلسطين فرنسا وعدة دول أوروبية وكندا وأستراليا، وربّما بريطانيا (دولة الانتداب التي منحت وعد بلفور وساهمت مساهمةً أساسيةً في قيام إسرائيل على أنقاض الشعب الفلسطيني). ومن المتوقّع أن يصل عدد الدول المعترفة مع نهاية الشهر المقبل (سبتمبر/ أيلول) إلى نحو 160، وهو عدد أكبر من الدول التي تعترف بإسرائيل. ... ولكن ما قيمة هذا الاعتراف؟ وهل هو خطوة في الاتجاه الصحيح، أم مجرّد فعل رمزي يهدف إلى إراحة الضمير الغربي والتغطية على التهرّب من مسؤولية مشاركة هذه الدول، أو كثير منها، في حرب الإبادة والتجويع، ويمهّد عملياً لضمّ الضفة الغربية وقطاع غزّة وتهجير الفلسطينيين؟
بدايةً، جاء الاعتراف بالدولة الفلسطينية متأخّراً جدّاً، إذ كان يفترض أن يتم منذ صدور قرار التقسيم 181 (في العام 1947)، الذي نصّ على إقامة دولة عربية إلى جانب الدولة اليهودية. لذلك، تبقى الشرعية الدولية لإسرائيل ناقصةً من دون قيام دولة فلسطين. لكن الدولة التي قامت على أساس القرار المذكور استولت على 78% من أرض فلسطين، أي أكثر من المساحة المخصّصة لها بأكثر من 20%. ومن المهم أن تتبنّى منظمة التحرير الفلسطينية استراتيجية الاعتراف الدولي، فالقضية الفلسطينية منذ نشأتها دولية، وصدرت بشأنها مئات القرارات الدولية من مجلس الأمن والجمعية العامّة وغيرها، لكنّها لم تطبّق بسبب الانحياز الأميركي والغربي لإسرائيل.
بدأت استراتيجية التدويل بعد إعلان الاستقلال عام 1988 في اجتماع المجلس الوطني بالجزائر، فاعترفت نحو مائة دولة بفلسطين. لكن سرعان ما جُمّدت هذه الاستراتيجية، واعتمد مسار المفاوضات حصراً، وهو خطأ جسيم وضع حقّ النقض (فيتو) في يد إسرائيل ورعاة "عملية السلام"، رغم أن الاعتراف بالدولة ليس منحةً، بل هو تجسيدٌ لحقّ تقرير المصير غير القابل للتصرّف وفق القانون الدولي، وهو غير مشروط ولا قابل للتفاوض. ومع مرّ العقود، انهارت المفاوضات، واستُخدمت ما سمّيت "عملية السلام" غطاءً لمواصلة الاستيطان ومصادرة الأراضي وتهجير الفلسطينيين. ارتفع عدد المستوطنين في الضفة من 110 آلاف عند توقيع "أوسلو (1993) إلى نحو مليون اليوم، ما يجعل أيَّ دولة فلسطينية قابلة للحياة أمراً مستحيلاً من دون تغيير هذا الواقع، ولكن إقامة دولة واحدة ديمقراطية أو ثنائية القومية من رابع المستحيلات، لأنها تقضي على إقامة دولة يهودية.

"الاعتراف بالدولة الفلسطينية يجب أن يُنظر إليه خطوة في مسار طويل، لا إنجازاً مكتملاً؛ فالهدف المركزي هو إنهاء الاحتلال

أُعيد إحياء استراتيجية التدويل والاعتراف بعد فشل المفاوضات، لكن الإنجاز بقي محدوداً. ففي 2012 حصلت فلسطين على صفة "دولة غير عضو" في الأمم المتحدة بقرار من الجمعية العامة، ما منحها امتيازاتٍ عديدة، لكن من دون حقّ التصويت. وكان الأجدى آنذاك (وحالياً) أن تُطرح كلّ عناصر القضية الفلسطينية، وفي مقدمتها قضية عودة اللاجئين، لا أن يُختزل الصراع في حدود 1967.
اليوم، وبعد "طوفان الأقصى"، وتراجع حدّة الإدانة الغربية للمقاومة الفلسطينية، شهدنا تحرّكاً واسعاً لحركات التضامن والضغط الشعبي في الغرب، ما دفع بعض الحكومات إلى اتخاذ خطوات غير مسبوقة، مثل إسبانيا وأيرلندا وجنوب أفريقيا، وغيرها من الدول التي حظرت السلاح (بريطانيا)، وتعليق التوريد للسلاح (ألمانيا)، وسحب استثمارات (النرويج)، وصولاً إلى اعترافات متجدّدة بالدولة الفلسطينية من دول أوروبية وغربية وأميركية لاتينية. وتُظهر هذه التحوّلات شرخاً في علاقة إسرائيل التاريخية مع الغرب، وتفتح الباب أمام فرض عقوبات عليها، حتى وُصفت في إسرائيل بأنها "تسونامي سياسي"، وقال نتنياهو إنها مكافأة للإرهاب وعقاب للضحية. لكن الاعتراف، رغم أهميته الرمزية والسياسية، يبقى غير كافٍ بمفرده، فهو لا ينهي الاحتلال، ولا يُجسّد الدولة في الأرض، ما لم يُقترن بإجراءات عملية ضدّ إسرائيل: إدانة جرائم الإبادة، فرض عقوبات، حظر توريد السلاح، تفعيل المقاطعة، وعزلها كما جرى مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
في المقابل، يُخشى أن يتحوّل الاعتراف محطةً شكلية تُستثمَر لدفع قطار التطبيع ودمج إسرائيل في المنطقة، مقابل شروط تُفرض على الضحية الفلسطينية: وقف المقاومة، تغيير المناهج، إلغاء مخصّصات الأسرى والشهداء. الأخطر أن يُنظر إلى الاعتراف غايةً بحدّ ذاته، في حين أن الاحتلال ماضٍ في توسيع الاستيطان، وضم الضفة الغربية، والتخطيط لإعادة احتلال غزّة وتهجير سكّانها. من هنا، لا بد من استراتيجية شاملة ومتعدّدة المسارات؛ استراتيجية الصمود والبقاء للشعب والقضية؛ استراتيجية المقاومة بأشكالها كافّة وفق قرار وطني موحّد؛ استراتيجية التدويل والعمل الدبلوماسي من دون حصره بالاعتراف؛ استراتيجية الدفاع عن الحقوق الكاملة وفي مقدّمها حقّ العودة؛ الاستراتيجية القانونية لمحاسبة إسرائيل عبر المحاكم الدولية؛ المقاطعة وفرض العزلة على الاحتلال؛ تحويل التضامن العالمي شراكةً نضاليةً من أجل الحرية والعدالة.

لا يكفي الاعتراف الشكلي بالدولة الفلسطينية، بل يجب أن يقترن بإدانة جرائم الاحتلال وفرض العقوبات وحظر السلاح

الاعتراف بالدولة يجب أن يُنظر إليه خطوةً في مسار طويل، لا إنجازاً مكتملاً. أمّا الهدف المركزي في هذه المرحلة فيبقى إنهاء الاحتلال وتحقيق الاستقلال، لا وهم الدولة الورقية. وهذا لن يتحقّق إلا عبر وحدة وطنية حقيقية، وقيادة واحدة تستند إلى برنامج مشترك وانتخابات حرّة، وشراكة مع قوىً أمميةٍ تؤمن بقيم الحرية والعدالة، حتى يصبح استمرار الاحتلال مكلفاً أكثر من أرباحه.
أمّا المبالغة في حصر الصراع بنتنياهو وحكومته الحالية فتضليل، فليست هذه الحكومة سوى التجسيد الأوضح والأكثر تطرّفاً للمشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني، والمعارضة الإسرائيلية لا تطرح بديلاً حقيقياً. لذلك، لا يكفي انتظار سقوط نتنياهو، بل المطلوب تفكيك المشروع الاستعماري نفسه، وهو ما يستدعي استراتيجية فلسطينية ودولية أكثر صلابةً وشمولاً.
دار نقاش فلسطيني وعربي ودولي واسع حول الاعتراف بالدولة الفلسطينية: هل هو خطوة صائبة أم خاطئة؟ وإذا كان صائباً، فهل يكفي وحده أم ينبغي أن يُربط بقضايا أخرى لا تقلّ أهميةً عنه، وربّما تفوقه، مثل وقف الإبادة الجماعية وحرب التجويع والتدمير الشامل لقطاع غزّة وتحويله منطقةً غير قابلة للحياة. ويذهب فريق من الفلسطينيين إلى أن الاعتراف يقزّم القضية الفلسطينية ويختزلها في حدود الضفة الغربية وقطاع غزّة، متجاهلاً جوهرها، وحدة الأرض والشعب والحقوق والرواية التاريخية. كما أن هذا الاعتراف (برأيهم) لا يضمن قيام الدولة، لأن الدولة لا تُقام في أروقة الأمم المتحدة وإنما في الأرض، في وقت تبذل فيه إسرائيل جهداً محموماً لدفن أيّ إمكانية لقيام دولة فلسطينية، ويفتح الطريق لإقامة معازل آهلة بالسكّان، معزولة بعضها عن بعض، وتقام على جزء من الضفة الغربية وقطاع غزّة وتحت السيطرة الأمنية والسيادة الاسرائيلية.
من هنا، يُنظر إلى الاعتراف ذا قيمة رمزية مهمة، لكنّه غير قابل للتحقّق في الواقع من دون إنهاء الاحتلال بالقوة أو بضغط دولي كافٍ لإجبار إسرائيل على الانسحاب، وهذا مستحيل في ظلّ "فيتو" أميركا الدائم ضد أيّ قرار في مجلس الأمن يمكن أن يفتح الباب أمام عضوية كاملة لدولة فلسطين. وبالتالي، من غير المقبول أن يقتصر دور الدول الأوروبية (وغيرها) على الاعتراف الشكلي، بل يجب أن يقترن اعترافها بضرورة إدانة جرائم الإبادة والتجويع والتدمير، والعمل على فرض عقوباتٍ جادّة على دولة الاحتلال، تشمل حظر السلاح والمقاطعة والمحاسبة، بما يضمن وقف الجرائم في غزّة ومنع تكرارها في الضفة أو أراضي 1948 أو حتى في دول عربية أخرى. فالمطامع الاستعمارية التوسّعية للحكومة الإسرائيلية باتت واضحةً، سواء عبر استمرارها في احتلال أراضٍ عربية في فلسطين ولبنان وسورية، أو عبر نياتها لضمّ أجزاء من مصر والسعودية ضمن وهم "إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات"، الذي يردّده قادة إسرائيل وفي مقدّمهم نتنياهو، ويشجّعهم عليه الدعم الأميركي المباشر، كما عبّر عنه دونالد ترامب صراحة.
أمّا موقف معارضة فكرة الاعتراف، فيطرح أصحابه بدائل، مثل المقاومة والتحرير الكامل، أو خيار الدولة الواحدة الديمقراطية/ ثنائية القومية بعد تفكيك النظام الاستعماري العنصري. وإلى جانب الموقف الرسمي والمواقف الجذرية، يؤكّد رأي ثالث التمسّك بوحدة القضية والأرض والشعب والرواية التاريخية المستندة إلى الحقوق الطبيعية والقانونية والتاريخية، ويرى أن ذلك لا يمنع التفكير في مقاربات مرحلية، فإسرائيل قوة نووية متقدّمة، من المستحيل هزيمتها عسكرياً حالياً، وحتى إشعار آخر، وحتى إن وُجدت هذه الإمكانية فلن يسمح الغرب، وفي مقدّمته الولايات المتحدة، بهزيمتها هزيمةً تهدّد بانهيارها. لذا لا مفرّ من التفكير بخطوات انتقالية، أبرزها إقامة دولة فلسطينية في حدود 1967، مع الإيمان بأنها مهمّة صعبة جدّاً وحظوظ نجاحها قليلة، مع العلم أنها لن تتحقّق إلا بإنهاء الاحتلال وتوفّر ضغط داخلي وخارجي ودولي كافٍ.

الدم المسفوك في غزّة هو المحرّك الأكبر للتضامن العالمي، لكنه زخم مرشّح للتراجع ما لم تستثمره قيادة فلسطينية موحّدة ببرنامج جامع

لتركيز الجهد على الضفة الغربية وقطاع غزّة ما يبرّره، فهما الميدان المطروح للحسم الآن من خلال الضمّ والتهجير والمصادرة والاستيطان، فالمعركة هنا، ويجب خوضها لا التهرّب منها. تسعى الحكومة الإسرائيلية الحالية إلى تصفية القضية عبر "حسم الصراع"، بعدما اكتفت الحكومات السابقة بسياسة "إدارة الصراع وتقليصه"، لذلك شرّعت قانون القومية عام 2018 الذي أعطى حقّ تقرير المصير لليهود وحدهم، وأقرّت خطوات لضمّ الضفة الغربية، وزادت الاستيطان والتهجير القسري وصولاً إلى إعلان هذا العام "عام فرض السيادة على الضفة". كما صوّت الكنيست بأغلبية ساحقة ضدّ قيام الدولة الفلسطينية، وهناك دعوات متصاعدة لاحتلال غزّة، وإعادة الاستيطان فيها وتهجير سكّانها. في المقابل، تُعزّز بعض العوامل فرصة المطالبة بالدولة، منها الكثافة السكّانية الفلسطينية في الضفة والقطاع (5.5 ملايين مقابل نحو مليون مستوطن)، الموقف الدولي شبه الموحّد ضدّ ضمّ الضفة والقطاع، المخاوف العربية، خصوصاً في مصر والأردن، من مخاطر التهجير على الأمن القومي العربي، ما دفعها إلى معارضة قوية حالت دون تنفيذه.
... الدم المسفوك في غزّة هو المحرّك الأكبر للتضامن العالمي، لكن هذا الزخم مرشّح للتراجع مع تراجع مشاهد الدم. لذلك يتطلّب استثماره بسرعة وقبل فوات الأوان قيادةً فلسطينيةً موحّدةً ببرنامج يجسّد القواسم المشتركة، ومؤسّساتٍ وقراراً وسلاحاً واحداً، والاستناد إلى انتخابات حرّة ونزيهة وعلاقة متنامية مع حركات التضامن وشراكة مع الحركات الأممية، التي لا تكتفي بالمطالبة بوقف الإبادة، وإنما تسعى إلى إنصاف الشعب وتمكينه من تقرير مصيره.
لا يجوز اعتبار الاعتراف الدولي من الدول أو حتى من مجلس الأمن نهاية المطاف، ولا ينبغي أن يتحوّل مدخلاً للتطبيع ودمج إسرائيل في المنطقة من دون محاسبة، والأخطر أن يقترن بفرض شروط على الضحية الفلسطينية: تغيير المناهج، تجريم المقاومة وما يسمّى وقف "التحريض"، وقطع مخصّصات الأسرى وعائلات الشهداء. وهذا مكافأة لدولة الاحتلال بدلاً من محاسبتها. كذلك لا بدّ من الحذر من خطوات قد يقدم عليها نتنياهو في الأسابيع المقبلة لعرقلة موجة الاعترافات بالدولة، خصوصاً مع التهديدات الأميركية بمعاقبة الدول التي تقدم على هذه الخطوة.