في عُرف الآباء، لا يتردد الأب في أن يقدّم روحه حبًا ليمنح صغيره ما يشتهيه، ويظفر بابتسامةٍ على شفتيه تُنسيه قسوة الدنيا.
وهذا ما حدث مع اللاعب محمد شعلان، ابن مخيم البريج، الملقب بـ"زلزال كرة السلة"، الذي دفعه ضيق الحال للذهاب إلى ما بات الغزيون يصفونه بـ"مصائد الموت"؛ مراكز توزيع المساعدات (GHF)، ليجلب علبة حلاوة طحينية طلبتها منه صغيرته مريم، المصابة بفشل كلوي وتسمم حاد في الدم؛ لم يقوَ قلب الأب على عجزه أمام مطلب طفلته المريضة، فخرج على أمل أن يعود بما يُبهجها... لكنه عاد محمولًا على الأكتاف، بدلًا من أن يحمل علبة الحلاوة.
تقول زوجته ميساء شعلان وهي تسترجع اللحظات الأخيرة: "كنا جالسين نتحدث، وكان محمد يلاعب الأولاد، فإذا بمريم تقول له إنها تشتهي الحلاوة الطحينية، فجسدها المريض بحاجة للسكريات. في ظل المجاعة لم نجد الفاكهة، وكان كيلو السكر باهظ الثمن. تأثر كثيرًا، وقال لها: بدي أروح أجيبلك يا بابا".
وتتابع أم يوسف، في حديثها لمراسلة وكالة "خبر": "ارتدى ملابسه، وأوصاني على الأولاد عند الباب، خصوصًا طفلي الرضيع الذي لم يتجاوز عمره الأربعين يومًا، ثم خرج... دون عودة".
في ركنٍ من البيت، تقف الكؤوس والميداليات شاهدة على مسيرة رياضية حافلة بدأها شعلان منذ الرابعة عشر من عمره؛ فقد لعب في المنتخب الوطني الفلسطيني وكان أحد أبرز نجوم كرة السلة في غزة الذي تتنافس الأندية المحلية على ضمه.
أما اليوم، فيجلس ابنه يوسف ممسكًا كرة السلة تذكار والده، وخلفه صورة "بطله الأول" بالزي الرياضي وتجلس الابنة الكبرى صامتة إلى جانب أمها، فيما تنام مريم على سريرها تتشبث بالمحلول، تحدق في الفراغ وتصارع المرض بعد أن فقدت سندها إلى الأبد، برصاصة جندي حوّل جوع الناس إلى متعة للقتل، فانتزع بوحشيته لون الحياة من لوحة أسرة كاملة.
الحزن يخيم على البيت وغابت الابتسامة؛ والدته تقول بصوت متهدج: "كان محمد يبكي ليل نهار بسبب عجزه عن تلبية احتياجات أطفاله بعد أن عصفت بنا الحرب؛ قبل ستة أشهر أصيب إصابة خطيرة ومكث في المستشفى أربعة أشهر، وحين تعافى، تدهورت حالة مريم، وأصبحت تعاني من تسمم حاد في الدم إلى جانب الفشل الكلوي وأصبحت بحاجة ماسة للسفر العاجل، لكنه لم يجد استجابة رغم طرقه جميع الأبواب".
صديقه سليمان المصري يقول بحسرة: "فقدان لاعب مثل محمد خسارة كبيرة؛ لم يكن مجرد لاعب بل كان محبوبًا جدًا، والجمهور الرياضي حزين عليه". ويضيف: "في عام 2011 تلقى عرضًا من مركز قلنديا في الضفة الغربية، لكن الاحتلال منعه من الخروج، لأنه لا يريد لاعبين محترفين من غزة".
قصة محمد شعلان ليست إلا واحدة من آلاف القصص لآباء دمّرت الحرب مكانتهم ومصادر رزقهم، فصاروا يبحثون عن لقمة تسد رمق أطفالهم في أماكن يزعم الاحتلال أنها "آمنة"، بينما هي في الحقيقة مصائد موت.
994 مُجوّعًا من غزة وأكثر أعدمتهم إسرائيل بالرصاص على أبواب مراكز توزيع المساعدات منذ بدء عملها وذلك خلال الفترة من 27 أيار/مايو حتى 13 آب/أغسطس وفق آخر إحصائية صادرة عن مكتب المفوضية الأممية لحقوق الإنسان.
أكثر من 994 روح قُتِلت ويُقتل غيرهم يوميًا بجُرم البحث عن طعام لأجل البقاء في ظل التجويع والإبادة الممنهجة التي ترتكب بحق كل فلسطيني في غزة.