ليس صدفةً أن الوحيد من بين رؤساء العالم الذي ما زال منحازاً لرئيس حكومة حرب الإبادة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، هو الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ولم يراهن نتنياهو بعد أكثر من ثلاثين سنة في رئاسة الحكومة الإسرائيلية، عبثاً على فوز ترامب في انتخابات الرئاسة في تشرين الثاني الماضي، وهو في سبيل تلك المراهنة، راوغ وكذب وتحمل ضغط الدنيا كلها، بما في ذلك ادارة الرئيس السابق جو بايدن، الذي حاول وقف الحرب قبل ان تستمر كل هذا الوقت، أقله قبل إجراء الانتخابات الرئاسية السابقة، ليضمن إعادة ترشيحه أولاً، ومن ثم بعد ان فشل في ذلك، أن يساعد على تفوق نائبته كامالا هاريس على ترامب، لكن فوز ترامب كان بسبب باستمرار الحرب، الذي ساعده للتفوق على هاريس لأن ناخبي حزبها الديمقراطي خاصة من العرب والمسلمين انفضوا عنها، او لم يتحمسوا كثيراً لفوزها، لما اعتبروه اسناداً من ادارة بايدن للحرب الإسرائيلية.
والشراكة بين الرجلين ظهرت في انصع اشكالها خلال ولاية ترامب السابقة ما بين عامي 2016_2020، التي منح خلالها ترامب الهدايا السياسية الثمينة لنتنياهو، مثل نقل سفارة بلاده الى القدس، والموافقة على القرار الإسرائيلي بضم الجولان السوري المحتل، وانسحاب اميركا من اتفاق 2015 بين مجموعة الدول العظمى 5+1 وإيران، ثم توج تلك الهدايا باتفاقيات إبراهيم، وكان يعتقد بأن طريقه للبقاء في البيت الأبيض بات بعد تلك الهدايا معبداً بالورد، لقناعته الراسخة بأن اللوبي الصهيوني في الكونغرس، وفي الحزبين هو الذي يقرر من يكون في البيت الأبيض، وهو من يقود للفوز بالأغلبية في الكونغرس، وحتى هو من يحدد حكام الولايات، أي باختصار هو الحاكم الفعلي للولايات المتحدة وهو عصب نظامها السياسي.
ورغم فشل ترامب في البقاء، ورغم امتعاضه من تهنئة نتنياهو لبايدن عام 2020، إلا ان العلاقة بينهما، بقدر ما هي براغماتية، بقدر ما تندرج ضمن سياق العلاقة الاستراتيجية بين أميركا وإسرائيل، هذا بشكل عام، لكن هناك تفاصيل، من مثل انه من الطبيعي ان يكون الحزب الجمهوري بشكل عام أكثر انسجاماً مع اليمين الاسرائيلي، فيما الحزب الديمقراطي اكثر ميلاً لليسار الاسرائيلي، وظهر هذا خلال ولاية بايدن ما بين عامي 2020_2024، حين بدأ ادارته باستقبال بيني غانتس وكان وزيراً للجيش دون موافقة نتنياهو، وحين حاول بايدن العودة بمجرد دخوله البيت الأبيض للعمل باتفاق 2015 مع ايران، ثم خلال فترة الحرب على غزة، حيث رافق الخلاف بينهما فصول تلك الحرب، خاصة عند تخوم رفح، لكن يبقى ان حدود الخلاف محدودة، فيما حدود التوافق مفتوحة على مصراعيها، والسبب تلك العلاقة الاستراتيجية بين الدولتين، لكن أيضاً بسبب التشابه في الطموحات والسياسات والنظرة الخاصة تجاه الذات والآخرين، بين الدولتين والحزبين والرجلين.
الولايات المتحدة ما زالت تصر على أنها الدولة التي تقود العالم، وفق مصالحها التي ترى انها متميزة كدولة وكشعب عن الآخرين، بالطبع تتمتع اميركا بامتيازات عالمية ورثتها عن حقبة الحرب الباردة، وما تلاها من سقوط للند الاشتراكي، ومن تلك الامتيازات ما لا يُعد ولا يُحصى مما تتمتع به هي دوناً عن غيرها، من ذلك انها تتمتع بحق النقض (الفيتو) في الأمم المتحدة، ورغم ان هناك اربع دول تشاركها هذا الامتياز، إلا ان اميركا تتميز بكونها الدولة التي تستضيف المنظمة الدولية على ارضها، ورغم «اتفاقية المقر»، إلا أنها ترى بأن ذلك يسمح لها بعدم منح ممثلي دولة عضو في المنظمة الدولية تأشيرات الدخول للمشاركة في الاجتماع السنوي للمنظمة الدولية، نقصد ممثلي الوفد الفلسطيني بمن فيهم الرئيس محمود عباس، وبالطبع لأميركا يد طولى في كل مؤسسات المنظمة، ذات التأثير الكبير على مجمل سياسات العالم، بسبب ان الأميركيين هم اعلى نسبة من بين موظفي المنظمة، ومن امتيازات الحرب الباردة، تتمتع اميركا بقواعد عسكرية منتشرة في كل انحاء العالم، كذلك تتمتع العملة الأميركية، أي الدولار، بامتياز عالمي لا تتمتع به اية عملة اخرى، وهو كونها عملة التداول العالمية.
وبعد ثلاثة عقود من انتهاء الحرب الباردة، نشأ نظام عالمي بفعل الأمر الواقع، يقوم على أساس القطب الوحيد، اي القطب الأميركي بعد ان كان النظام العالمي ثنائي القطبية خلال الحرب الباردة، لكن خلال تلك السنوات مرت مياه كثيرة في النهر، وتغير الحال بشكل طبيعي وسلمي ودون إكراه او ضغط من أحد، باتت اليوم الثروة الاقتصادية هي القوة الأهم، والتي تحدد مكانة الدول، بل بات حتى السلاح خاضعا للقوة الشرائية، وبات الاقتصاد نفسه مع الشركات متعددة الجنسيات، وانفتاح العالم كسوق استهلاكي واحد، بلا وطن، والحقيقة ان اميركا منذ فترة، وبالتحديد بعد ان انتهت من حربها مع القاعدة وطالبان، لديها هاجس يتلخص في كيفية اعادة سيطرتها الوحيدة على العالم، بعد ان تعاظم الاقتصاد الصيني وبات منافساً للاقتصاد الاميركي، الذي لا يقلق من الاقتصادات الأخرى التي ليس لديها الفرصة للتنافس، وللوقوف على حقيقة التنافس الاقتصادي العالمي تكفي مقارنة الناتج المحلي الأميركي الذي بلغ عام 2024_ 28،78 تريليون، في حين بلغ الناتج المحلي الصيني في نفس العام 18،74 بينما شكل الناتج المحلي الياباني ثالث اكبر اقتصاد عالمي 5،96 تريليون فقط.
لذلك اعتقد ترامب الذي يرفع شعار «اميركا العظمى» بأن مهمته هي اعادة السيطرة على العالم، فبدأ عهده بإطلاق التهديدات بضم دول والسيطرة على جزر، ثم بفرض الحرب التجارية على العالم كله، أما نتنياهو وشركاؤه الفاشيون فيرفعون شعار «إسرائيل الكبرى»، وهذا يعني احتلال دول بالكامل وهي فلسطين والأردن ولبنان واكثر من نصف سورية ونصف العراق، ونصف السعودية ونصف مصر، وهذا يعني بأن نتنياهو يجعل من معظم الشرق الأوسط عدواً لإسرائيل، وتظهر شراكة الرجلين بشكل ناصع في مواصلة الحرب على غزة، حيث يسعى نتنياهو من مواصلة الحرب تغيير الشرق الأوسط ليصبح جاهزاً لقبول إسرائيل الكبرى، وترامب يسعى للسيطرة على غاز غزة، ويرى فيها مشروعاً سياحياً، وبقدر ما أثار ترامب ونائبه جي دي فانس دول أوروبا والعالم، يواصل نتنياهو فصول العداء مع قادة العالم الحر، فبعد التلاسن الحاد مع الرئيس الفرنسي، تطاول على شخص رئيس وزراء استراليا، واليوم على رئيس حكومة بلجيكا، ومن قبل هو ووزير خارجيته جدعون ساعر، ووزيره الفاشي ايتمار بن غفير، تطاولوا على رئيس وزراء بريطانيا ووزير خارجيتها، ومن قبل كل هؤلاء دخل طاقم حكومة الإبادة الجماعية الإسرائيلي في حرب كلامية مع رؤساء وزراء إسبانيا، وإيرلندا، وغيرهما، وكل هذا يجري بسبب رفض قادة هذه الدول سياسة نتنياهو في مواصلة حرب الإبادة، إصراره على إرساء قواعد استحالة قيام دولة فلسطين المستقلة، بعد ان رفض قيامها بمنع التوصل للحل السياسي طوال 30 سنة مفاوضات.
والعداء القائم اليوم بين الحكومة الإسرائيلية الفاشية ودول العالم الحر، ليس عداء قائما على أسباب أيديولوجية، وليس بدافع المصالح، بل لأن تلك الدول تؤمن بالعدالة الدولية، فيما نتنياهو عقائدي وترامب «بزنس مان» سياسي، لا مكانة للقيم الإنسانية عندهما، ونتنياهو حين يهاجم تلك الدول، الأوروبية خاصة، ينسى بأنها هي التي أقامت «دولة اسرائيل» قبل ان تظهر اميركا على خشبة المسرح السياسي، وذلك كحل للمسألة اليهودية التي نشأت فيها، كأحد اهداف قيام تلك الدولة، لذلك اعتقدت بأنها ستكون عنصر استقرار في تلك المنطقة، ولا ترى فيها ولا بأي شكل تجسيدا لحق تاريخي أو لاهوتي، وهي اكتفت بها كجزء من قرار التقسيم، لذلك فإن دول العالم الحر واضحة في موقفها ضد نتنياهو وحربه ومشروعه التوسعي في الشرق الأوسط، وهي ما زالت مع الحفاظ على دولة اسرائيل، ولكن ليس مع تطرفها وعنفها، وذلك الى جانب دولة فلسطين، وترى بذلك تنفيذا لحل الدولتين وهو ترجمة ما لقرار التقسيم التاريخي.
وحين يهاجم نتنياهو واعضاء حكومته رؤساء حكومات وممثلي دول العالم الحر، مثل فرنسا، بريطانيا، اسبانيا، استراليا، كندا، ايرلندا، بلجيكا، النرويج ... والقائمة تطول، حتى تصل جنوب افريقيا والبرازيل ودول اميركا اللاتينية، كما تشمل امين عام الأمم المتحدة وموظفي المنظمة الدولية المهنيين والمحايدين والذين يتمتعون بالمسؤولية الإنسانية عن العالم أجمع، وبالنظر الى ما يقوله الشارع العالمي من خلال التظاهرات، فإن مواقف رؤساء حكومات العالم الحر، هي استجابة متعقلة لما يطالبهم به الناخبون، فإنه أي نتنياهو وجدعون ساعر وسموتريتش وبن غفير يقودون إسرائيل للعداء مع العالم كله، ولن يطول الوقت، حتى يسقطوا جميعاً في شر أعمالهم.
العد التنازلي يبدأ.. المنتخبات المتأهلة إلى كأس العالم 2026
05 سبتمبر 2025