رسالة الصين من العروض العسكرية

تنزيل (3).jpeg
حجم الخط

الكاتب: هاني عوكل


 

لا يشكك أحد من المتابعين للسياسة الدولية أن الصين ما عادت تلك الدولة الشيوعية الفقيرة التي كانت فيما مضى على هامش العالم الحديث، بل غدت اليوم قوةً هائلةً تنمو بمتوالية هندسية وتزاحم الولايات المتحدة الأميركية والغرب في إعادة تشكيل النظام الدولي.
في العام 2015 أقامت بكين عرضاً عسكرياً بمناسبة مرور 70 عاماً على استسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية، كان بمثابة رسالة للغرب أنها قوة صاعدة لا ينبغي الاستهانة بها، وأنها في بداية تشكيل محور عالمي مناهض للمحور الغربي الذي تقوده واشنطن.
رسالة أخرى طيّرتها إلى الولايات المتحدة والغرب في عرضها العسكري الأكبر في التاريخ عام 2019، بمناسبة الذكرى 70 لتأسيس جمهورية الصين الشعبية، وفيها قالت للعالم إنها دولة متكاملة من كل النواحي السياسية والاقتصادية والعسكرية، وأنه يمكن الرهان عليها في إعادة رسم ملامح النظام الدولي.
أما المحطة الثالثة والأبرز، فقد تجسّدت قبل ثلاثة أيام بالعرض العسكري الضخم والمبهر الذي أقيم بمناسبة مرور 80 عاماً على هزيمة اليابان ونهاية الحرب العالمية الثانية، بمشاركة رؤساء 26 دولة من بينهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون.
هذا العرض العسكري الكبير الذي شارك فيه حوالي 13 ألف جندي و50 ألف مشارك في ساحة تيانانمن الشهيرة وسط بكين، واستعراض لأحدث التقنيات العسكرية الهجومية والدفاعية، يعكس استراتيجية الصين في التسلح ورغبة في توسيع نفوذها الدولي في العالم.
العرض كلف خزينة الدولة 5 مليارات دولار، أي حوالي 2% من ميزانية بكين الدفاعية السنوية، ويحمل في دلالاته رسائل كثيرة داخلية وخارجية، مفادها أن الصين ناضجة على كافة المستويات وقادرة على مواجهة النفوذ الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية.
الرئيس الصيني شي جين بينغ الذي اعتلى المنصة الرئيسية في ساحة تيانانمن، بث الروح الحماسية والقومية بين الصينيين في خطابه وسعى لتوحيدهم خلفه وخلف الحزب الذي ينتمي إليه، وفي المقابل بعث رسائل كثيرة للعالم وفي مقدمتها الغرب أن الصين بلد سلام لكنها مستعدة للحرب إن لزم الأمر.
العرض العسكري بما يحمله من تقنيات حديثة وأسلحة فتاكة وعابرة للقارات، وثالوث نووي مخيف قادر على الوصول إلى قلب أميركا، هذه التقنيات التي أظهرتها الصين كجزء من ترسانتها العسكرية تشي أنها لن تقبل بسياسة الاحتواء أو العزل التي تدفع بها واشنطن لإخراج بكين من الساحة الدولية.
لقد كشف العرض استراتيجية الصين الدفاعية والهجومية، وجهوزيتها التسليحية التي تحقق لها تفوقاً عسكرياً في الميدان، إذ حينما تستعرض صواريخ نووية عابرة للقارات وطائرات مسيرة شبحية وأخرى استراتيجية وصواريخ فرط صوتية وباليستية وأسلحة ليزرية وذئاباً روبوتية، فهي تعلن بصراحة أنها تتحدى الولايات المتحدة والغرب مجتمعين.
كذلك حين تعلن عن زيادة رؤوسها النووية من 600 الآن إلى 1500 حتى العام 2035، فهذا مؤشر على أنها تتبنى سباق التسلح لتحصين نفسها وتعزيز قدرتها على الردع النووي، وهي رسائل يبدو أن واشنطن تتعامل معها بجدية كبيرة.
اللافت للنظر أن شي جين بينغ دعا الرئيس الروسي بوتين والزعيم الكوري الشمالي، وهذا اللقاء الثلاثي المشترك الذي يحدث لأول مرة في التاريخ يعكس تحدياً صارخاً لواشنطن حول بداية تشكل محور مناهض للغرب.
الصين التي ظلت طوال عقود تراقب الصعود الأميركي وتمارس سياسة «التمسكن حتى التمكن»، أصبحت اليوم ترفع «لا» في وجه واشنطن ومستعدة لمنافستها دولياً، وهي تخطو الخطى بشكل متسارع حتى تمنع حدوث أي تحولات جوهرية في بحر الصين الجنوبي.
الصين مثلها مثل كل الدول الكبرى لا يهمها سوى نفسها وتحقيق مصالحها الخاصة، وهذه المصالح تتكدس في بحر الصين الجنوبي الذي يشعل الآن منافسة مع الولايات المتحدة الأميركية، وحتى تكون أهلاً للمنافسة عليها اللعب في ملعب أكبر عبر توسيع دورها المركزي في النظام الدولي.
الولايات المتحدة فهمت الرسائل الصينية منذ فترة طويلة، وهي تمضي في خطط لمحاولة احتوائها وعزلها دولياً، واستفزازها عبر تطويقها في بحر الصين الجنوبي وتحييدها عن تايوان، وفي المقابل تخطط لتحديث أسطولها العسكري وإدخال تقنيات جديدة وبناء قبة ذهبية لتوفير درع دفاعي شامل.
كذلك حين يقرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب تغيير مسمى وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب، فهذا دليل على أن واشنطن تحشد باتجاه مواجهة النفوذ الصيني والمحور الذي تقوده مع روسيا، ويبقى السؤال الأبرز الذي يمكن النقاش حوله في مقال لاحق هو هل نحن أمام حرب تقليدية مقبلة بين التنين الصيني وأميركا؟ أم أننا أمام حرب باردة استنزافية طويلة المدى وحروب بالوكالة؟