هذه المرة قُدِّر للمبعوث الدولي الخاص إلى سورية ستيفان دي مستورا أن يطمئن ولو قليلاً لحال المسار السياسي السوري الذي دعا إلى استكماله بين فرقاء النزاع يوم التاسع من الشهر الجاري، بعد طلب من الأمم المتحدة بضرورة استثمار الظروف الحالية للتقدم خطوةً إلى الأمام نحو تسوية الأزمة السورية.
دي مستورا حصل على الضوء الأخضر من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، فضلاً عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن الذي استبق الإعلان عن هدنة السبت الماضي، بقرار يدعم وقف العمليات القتالية بين فرقاء النزاع السوري.
في استعراض سريع للجولة الأولى من المفاوضات التي عقدت في جنيف أواخر شهر كانون الثاني 2016، كان واضحاً أنها ستفشل بسرعة في ضوء ثلاثة عوامل مهمة تتصل أولاً بمواصلة النزاع السوري على الأرض، وثانياً عدم وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين المتضررين، فضلاً عن العامل الأهم الذي يتعلق بعدم اتخاذ كل من واشنطن وموسكو الدور الكافي لتأمين انطلاقة العملية السياسية حول سورية.
اليوم هناك اتفاق على وقف إطلاق النار بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، وهذا الاتفاق هو الذي أدى إلى تثبيت الهدنة بصرف النظر عن حجم الخروقات التي يتحدث عنها طرفا النزاع السوري، لكن يمكن القول إن صمود الهدنة مرهون بإرادة اللاعبين الدوليين في سورية واشنطن وروسيا.
على هذا الأساس تحرك دي مستورا لإعلان استكمال المفاوضات في جنيف بعد خمسة أيام من هذا التاريخ، فهو يريد أن يستثمر الأجواء الحالية لجهة جمع طرفي النزاع السوري، خصوصاً وأن العمليات القتالية تراجعت حدتها حسب تصريحات صادرة عن الأمم المتحدة وواشنطن وروسيا أيضاً.
إذن ما هي سيناريوهات الملف السوري في ضوء هذه المتغيرات؟ إن الحديث عن موضوع الملف السوري والتكهن بنتائجه شبيه بمحاولات "تبصير الفنجان" وفهم محتواه، غير أن هناك معطيات قد تساعد على فك "لوغاريتمات" هذه الأزمة التي أثقلت كاهل السوريين والعديد من الدول المجاورة وغير المجاورة.
السيناريو الأول يتعلق باحتمال فشل الهدنة وتواصل النزاع على أشده، وبالتالي فشل العملية السلمية وربط ظهور الحل السياسي بتحقيق إنجاز عسكري حاسم يؤهل الطرف الأقوى لفرض شروطه على الطرف الأضعف، وهذا الاحتمال وارد في ضوء الخلاف الواسع بين طرفي النزاع السوري.
يرتبط هذا بكون الهدنة جاءت من الدول المؤثرة في النزاع السوري وليس من مستوى أصحاب النزاع، الأمر الذي يعني أن هؤلاء لا يهمهم وقف إطلاق النار كثيراً، باستثناء أنهم خضعوا لضغوطات أميركية- روسية ألزمتهم ضرورة وقف إطلاق النار.
أما السيناريو الآخر، فيتعلق باحتمال صمود الهدنة بين طرفي النزاع نتيجةً لتوليد الضغط الأميركي والروسي، ومن ثم الذهاب إلى الحوار السياسي الذي قد يقود عاجلاً أو آجلاً إلى تسوية الملف السوري على قاعدة النظام والمعارضة في سلة واحدة.
ربما يكون هذا السيناريو هو المرجح في ضوء الآتي: أولاً علينا أن ننتبه جيداً إلى أن الاتفاق الأميركي- الروسي هو الذي أنقذ خريطة الطريق التي اعتمدها مجلس الأمن الدولي قبل عدة أشهر لتسوية الملف السوري.
لو لم يكن هناك اتفاق بشأن وقف العمليات القتالية في سورية، لكانت الأمور مختلفة عن الواقع الحالي، خصوصاً وأن المعارضة المعتدلة تعيش اليوم في أسوأ أيامها، والتدخل الأميركي للبحث عن هدنة صامدة هو محاولة لإنقاذ المعارضة من فخ الهزيمة.
ومن تابع النزاع العسكري خلال الأسابيع القليلة الماضية، كان يلاحظ تقدم القوات الحكومية السورية التي استأسدت وسيطرت على مناطق شهدت قتالاً عنيفاً بينها وبين قوات المعارضة، وحجم الدعم والإسناد الذي حصلت عليه من حليفتها روسيا التي لم تبرح ميدان النزاع السوري.
ثانياً: واضح أن الموقفين الأميركي والروسي يدعمان خطة وقف إطلاق النار، بدليل أن مجلس الأمن اعتمد هذه الخطة بالإجماع وبدون اعتراض أي دولة، لكن لا أحد يعلم ماذا يجري في دهاليز السياسة بين الطرفين الكبيرين.
ثمة تسريبات صحفية تقول إن هناك اتفاقا (أميركي- روسي) على إلزام طرفي النزاع السوري بالذهاب إلى طاولة المفاوضات، وبحث تفاصيل الأزمة السورية تحت عنوان إيجاد أرضية مشتركة لتجسيد الشراكة السياسية، ويقال إن روسيا أقنعت دمشق بأن عليها الاستغناء عن فكرة تحقيق النصر الكاسح بالنزاع العسكري، وربط إسقاط شروط ومطالب المعارضة بما أنجزته القوات الحكومية في ساحة المعركة.
القصد من ذلك توديع فكرة الحديث عن مستقبل الرئيس بشار الأسد، وتكثيف الجهد نحو معالجة ملف الإرهاب بشكل جمعي والذهاب إلى حكومة محاصصية أو تكنوقراط أو وفاق وطني أو أي اسم آخر.
الآن كل المؤشرات تقول إن الطرفين الأميركي والروسي يراقبان عن كثب صمود الهدنة، ويدفعان باتجاه استكمال المسار السياسي، وهما وحدهما من يقرر مستقبل سورية المرهون لإرادتهما، ودون ذلك فإن طرفي النزاع السوري مجرد أدوات لهذين العملاقين.
يعلم الجميع القاصي والداني أن الولايات المتحدة وروسيا يمكنها تسوية الملف السوري الآن لو أرادت ذلك، لكن العبرة تكمن في طبيعة إدارة الأزمة وحجم "الكعكة" التي يمكن أن تحصل عليها من الموضوع السوري، فلا عجب أن نسمع عن قرب تسوية هذه الأزمة برعاية أميركية- روسية.
حتى الآن يخضع الملف السوري لمساومات بين الدول الكبرى المؤثرة في النزاع السوري، وهذا يعتمد بشكل أو بآخر على قوة الطرف السوري في ميدان المعركة، لذلك ليس من الغريب أن تنتهي الأزمة السورية على إقامة حكومة وحدة وطنية يقودها الرئيس بشار الأسد لفترة من الزمن.
هذه الفرضية تتفق معها روسيا والولايات المتحدة من حيث المبدأ، لكن يظل الحديث يدور بين "الأخذ والعطا" كما يقول المثل، بهدف الحصول على أثمان أكبر وتعظيم الإنجازات لكل طرف، وفي نهاية المطاف تكون واشنطن قد حفظت ماء وجهها وتلافت انكسار شوكتها في سورية، خصوصاً وأنها الطرف المناقض لروسيا والمواجه لها في الملف السوري.
مرةً أخرى يمكن القول إن قراءة المشهد السوري تحتاج إلى فهم أعمق لما يجري بين مختلف الأطراف المؤثرة في النزاع السوري، لكن الواقع الحالي والاحتكام للعقل يحيلنا إلى تحليل مجريات الأمور كما جرى استعراضها في السيناريوهين أعلاه.
إلا أن الملف السوري مفتوح على خيارات أخرى غير ذلك، خصوصاً وأن تجربة خمس سنوات من القتال جعلت النزاع واسع فضفاض أقرب إلى مردودة "شباط ما عليه رباط"، إنما لمنطق يقول إن هذا الملف في الطريق إلى الحل، إما بسرعة السلحفاة أو بسرعة الصاروخ، الله أعلم.
الرئيس عباس يُعزي نظيره السوري بضحايا الهجوم الإرهابي في حمص
06 أكتوبر 2023