منذ العام 1995 بدأت قطر تخطط لأن تصبح قوة عظمى، ولاعباً أساسياً في المنطقة، وأن تبني لنفسها قوة أكبر بكثير من حجمها، قوة تعوض ضعف تعدادها السكاني وصغر مساحتها، هذه القوة سترتكز على أربع قواعد، الأولى: لعب دور الوسيط لحل النزاعات. الثانية: الاعتماد على قوة وسطوة الإعلام (الجزيرة). الثالثة: استثمار الغاز وخطوط إمداده وتحويله من قوة اقتصادية إلى سياسية. الرابعة: تحصين نفسها أمنياً وعسكرياً باستضافة أكبر قاعدة عسكرية أميركية تؤمن لها الحماية من أي خطر خارجي أو داخلي (طبعاً باستثناء الخطر الإسرائيلي).
النقطة الأولى ربما تكون الأهم، حيث إنها بذلك حددت لنفسها دوراً وظيفياً يقوم على لعبة التوازن بين المتناقضات من خلال ممارسة دور الوسيط والتدخل في الملفات الإقليمية المتشابكة (القاعدة، طالبان، الحركات الجهادية في سورية، دارفور، ليبيا، إيران، الإخوان المسلمين، حزب الله، الحوثيين، رعاية شخصيات معارضة عربية، ثورات الربيع العربي.. إلخ)، هذا الدور منحها وزناً مضاعفاً في المعادلات الدولية، وجعل منها قوة يحسب لها حساب.. لكن جميع هذه الملفات باتت من الماضي، وصارت عبئاً وتم التخلص من معظمها، أو حلحلتها، أو أنها وجدت طريقها لحلها بنفسها دون وساطة.. ولم يعد النظام الدولي راغباً بدور الوسيط القطري، وقد أخذ يعالج ما تبقى من ملفات شائكة بطريقته الخاصة، والتي اقتضت إزالة العوائق بدلاً من استخدامها كما كان يفعل سابقاً، بل إنه يقوم حالياً بإعادة هندسة الدول نفسها، وليس فقط الميليشات والقوى المحلية الصغيرة.
في النهاية، لم يتبقَ لقطر من ملف سوى رعايتها لحماس (تسويقها إعلامياً، دعمها مالياً، استضافة مكتبها السياسي، التوسط في مفاوضات الهدنة وصفقة الرهائن). وهذه الوظيفة تمت أصلاً بطلب إسرائيلي (منحة العمادي لحماس قبل الحرب)، وبطلب أميركي (استضافة مكتب حماس في الدوحة، ورعاية المفاوضات).. وظلت هذه الوظيفة مشروطة بقدرة قطر على تأمين الملاذ والحماية.
لكن قصف إسرائيل لمقر إقامة قيادة حماس في الدوحة حمل معنى واضحاً؛ أنَّ قطر استُهلكت وظيفياً فيما يخص ملف غزة، وإعلاناً عن انتهاء دور الملاذات الآمنة، ما يعني نهاية اللعبة، وتحديد قواعد جديدة، ويعني أن طبيعة الدور الوظيفي القطري لم تعد تُرسم في الدوحة، بل في مراكز القرار الكبرى التي أعادت ترتيب أولوياتها، والتي ربما تتجاوز قطر وتستغني عنها، وقد يصبح إقصاؤها خطوة طبيعية ضمن إعادة توزيع الأدوار.
باختصار، النفخ والتضخيم الذي فعلته قطر بنفسها وصل حده الأعلى، وبدأ منحى الهبوط.. وليس أمامها سوى إدراك حدود قوتها الحقيقية، لا المتخيلة والمفتعلة والموظفة.. أي أن تنكفئ ضمن حدودها الجغرافية، أو أن تبحث عن دور وظيفي جديد.
بالنسبة لإيران، ولأن قصتها طويلة سنكتفي بمعالجة مختصرة: استشعرت إيران بقوتها، أو أرادت لنفسها قوة أكبر من حجمها، أرادت أن تصبح دولة نووية لتغدو قوة دولية يعتد بها، فأخذت تمد نفوذها في البلدان العربية، حتى هيمنت على العراق وسورية ولبنان وغزة واليمن، بالنزعة الطائفية حيناً، وبالتسليح أحياناً، وأوجدت «محور المقاومة» الذي انتهى نهاية حزينة.. لو أنها أنفقت تلك المليارات على البناء الداخلي والتنمية وتوطين التكنولوجيا والاهتمام بالإنسان لصارت بالفعل قوة حقيقية يعتد بها.. بذلك قدمت مثالاً على «وهم القوة» حين يرتد عكسياً، ويصبح عبئاً.
لنأتِ إلى إسرائيل، التي رغم قوتها المفرطة تحاول لعب دور أكبر بكثير من حجمها ومن قوتها العسكرية.
القوة العسكرية ليست كل شيء، ولا هي أهم شيء.. بسبب فائض قوتها العسكرية (والاقتصادية والسياسية) أخذت إسرائيل تعربد على المنطقة، تقصف يميناً وشمالاً، ليلاً ونهاراً، تضرب في العمق أهدافاً في لبنان وسورية والعراق وإيران واليمن وقطر وتونس، تقتل مدنيين، وتغتال قيادات في كل مكان.. تضرب بعرض الحائط كل القوانين الدولية والشرائع الإنسانية، بلا رقيب ولا حسيب.
ومع استشعار فائض القوة أحس نتنياهو بالنشوة، وصار يعاني من جنون العظمة، معتقداً أنه أقوى رجل في المنطقة ولا أحد قادر على إيقافه.
ومع استشعار فائض القوة ازداد تطرف وتوحش المستوطنين في الضفة الغربية. وللسبب نفسه استفحل اليمين الديني المتطرف داخل إسرائيل وأخذ يتغول على الدولة والمجتمع، مهدداً بتفسيخهما.
إذا بقي التيار اليميني مسيطراً ومهيمناً سيزداد تطرفه وتمدده، سيحوّل إسرائيل إلى دولة دينية منبوذة ومعزولة لا يستطيع أقرب حلفائها الدفاع عنها، أو تبني روايتها، وهذا حتماً سيقودها للهلاك، وقد بدأت مؤشرات ذلك.
وكما كتب الصديق هاشم العامر: «لطالما سقطت الإمبراطوريات العظمى بسبب طموحات شخصية لمن يحكمها، ونتنياهو يبحث عن طموح شخصي سيودي بإسرائيل؛ إسرائيل الآن قوية بلا شك ومدعومة ومسنودة، لكنها أصغر بكثير من أن تبتلع منطقة بكاملها.. عسكرياً هي رابحة الآن، لكنها سياسياً وأخلاقياً وحضارياً سقطت وخسرت الكثير. وعلى العالم أن يختار بين أن يحتضن كياناً عنصرياً مجرماً، أو يتمسك بالقيم والمبادئ الإنسانية التي يدعو لها. لن يطول الأمر كثيراً، ولن يختار العالم حفنة مجرمين كاليمين الحاكم بإسرائيل مهما حدث، ولن تنجو إسرائيل من جريمة الإبادة التي ارتكبتها مهما طال الزمن».
بحسب تعبير الصديق أكرم مسلم: «تمتلك إسرائيل مخيلة إمبراطورية لكنها لا تمتلك أياً من مقوماتها؛ لا عمق جغرافي ولا ثقل سكاني ولا ركائز تاريخية ولا مقومات ثقافية ولا منظور حضاري. دولة تافهة عكاكيزها الأمنية والاقتصادية لن تستطيع المضي بهذه الحمولة بعيداً».
أطـراف تـم تـضـخـيـمـهـا (1 من 2)
15 سبتمبر 2025