لقد قتل قيصر بفعل قوته وتفاخره بهذه القوة على حد سواء، كتب معلقاً إدوارد جيبون أحد أعظم المؤرخين لسكرات الموت الأخيرة في تاريخ الإمبراطورية الرومانية عن واحدة من أشد المفارقات مأساوية في الدراما السياسية. غرور القوة الذي هو آفة أخيل كما سيحذر ديغول فيما بعد بن غوريون غداة حرب حزيران 1967.
«احذر إذن يا إسكندر من هذه الآفة التي افترست أخيل» كتب أرسطو الى تلميذه، لأن الأقوياء يا إسكندر هم آخر من يعلمون بالحقيقة. وقال جمال زحالقة قبل أيام إن بنيامين نتنياهو يمر الآن في واحدة من أشد حالات الشعور بسكرات القوة.
لكننا نظلم التاريخ أو نفتري عليه كما نظلم هذين العظيمين يوليوس قيصر والإسكندر المقدوني، اللذين يشار إليهما في الدراسات الاستراتيجية على انهما أعظم الاستراتيجيين تفوقاً وعبقرية في التاريخ، حين نقارن بنيامين نتنياهو بهما وهو الذي كانت كل حروبه في هذا التاريخ عبارة عن حملات باستخدام الدبابة والطائرة، في قصف البيوت في غزة على رؤوس ساكنيها العزل الآمنين، او هدم هذه البيوت كعقاب جماعي في الضفة. لكن ألم يظهر قبل أيام قليلة في ذات المشهد الذي هو الفخر بالقوة والذي كان موضوعاً محبباً للشعراء العرب في الجاهلية، الفخر بقوة القبيلة الى جانب مواضيع أخرى كالغزل والبكاء على الأطلال، حين خاطب وزراءه ووسائل الإعلام مشيراً إلى ان مسارعة البعض في العالم لكسب ود إسرائيل» إنما بسبب قوة إسرائيل على جميع المستويات كافة».
وكان يقصد بذلك ربما تركيا ودول عربية لم يسمها، وفي لحظة الشعور بالانتشاء هذه أضاف الرجل معطياً تعليماته بفتح القارة الإفريقية في استدارة واضحة لا يخفى مغزاها الآن بعد أن قال له الأوروبيون «كش ملك». هيا بنا نتأمل في الإبانات السياسية التي تطرحها هذه المفارقة او الإشكالية وتنتج عن أزمة القوة والتباهي المفرط بهذه القوة على حد سواء في حالة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. ان نموذج داوود وجوليات حاضر دوماً في ذاكرة الإحالات التمثيلية لهذا الصراع الذي يفتقد الى نوع من التعادل، التناسب في توازنات القوى، وفق المعايير او المقاييس الكلاسيكية لمفهوم توازن القوى المادي او العسكري.
لكن السؤال الجوهري هنا أي وضع لتوازن القوى هذا يبقى اذا ما كان هذا التوازن او الأدق الاختلال في هذا التوازن يُستخدم غالباً دونما أية ضوابط عقلانية في الأداء الى حد التطرف هنا؟ وبحيث تبدو المعادلة اقرب الى صورة من يقوم طوال الوقت بتوجيه اللكمات الى الطرف المقابل الى الحد الذي يبدو فيه كما لو ان المواجهة او المبارزة تتم من جانب واحد، مقابل ردود أفعال من الطرف المقابل لا تتناسب وحجم العنف والضغط الذي يتعرض له.
وهذا هو الواقع الباعث على التحليل والتأمل في مغزاه، لا توجد إحصائية دقيقة تبين لنا حجم التعديات اليومية التي تمارسها إسرائيل على الفلسطينيين، والتي ترصدها وسائل الإعلام من صحافة محلية وإذاعات في صبيحة كل يوم او نهار جديد، وهذه الأخبار المتكررة بصورة متشابهة كل يوم وكأنها دائرة لا تتوقف عند نهاية محددة في الزمان، وموجهة نحو متلقٍ واحد لها في العالم ويعاني وحده من تكدر النفس في هذه التجربة التي تشبه الجحيم.
ولكن الاعتقاد التقريبي ان نسبة هذه الأخبار والتقارير تصل الى نحو 70% من مجموع الأخبار التي يتلقاها الفلسطينيون عن الوضع العام لحالتهم. والسؤال أي وضع يمكن مواصلة العيش معه وتحمله في ظل هذا الضغط المتواصل على النفس والشعور؟.
وهذه هي العناوين: حملات المداهمة والاعتقالات وهدم المنازل والبيوت، والشهداء الذين لا يتوقفون عن الارتقاء وكأنهم يصطفون في طابور غير مرئي لا يرى منه الا ذكر أسماء من يأتي عليهم الدور، وماذا عن الحواجز ومصادرة الأراضي والبناء في المستوطنات لهذا اليوم وهدم المنازل والبنايات غير المرخصة، وإطلاق النار على المزارعين والصيادين في غزة.
لكن القوي الأرعن لا يكتفي بكل ذلك، وإنما يبتكر شيئاً جديداً وهو احتجاز جثث الشهداء الذين يقتلهم كل يوم، وإذا كان هذا لا يكفي لكسر شوكة الفلسطينيين، فإن العقل الإسرائيلي الذي يتباهى أيضا بذكائه على الجميع يوصله إلى اختراع وسيلة أُخرى، وهذه المرة إبعاد عائلات الشهداء إلى غزة ليضاعف كلفة قيام الشبان بطعن الجنود والمستوطنين.
ولأنه لن يكون كافياً أيضاً كل ذلك لتحطيم الروح المعنوية للفلسطينيين، والإثبات لهم أن إسرائيل هي الأقوى في هذا السجال، وان عليهم ان يقروا بهزيمتهم والكف عن هذه المقاومة العبثية، فإنه في الوقت الذي يصدر أوامره بالإفراج عن نصف مليار شيكل من أموال السلطة التي يحتجزها، فإنه يُصدر أوامره إلى رئيس الموساد الجديد باغتيال عمر النايف في عقر السفارة الفلسطينية في بلغاريا.
هل ترون أيها الفلسطينيون بعد ذلك إلى أين يمكن ان تصل ذراعنا الطويلة بحيث نستطيع حتى قهر خيالكم؟ لقد تغيرت وسيلة وأسلوب الاغتيال القديم زمن العجوز غولدا مائير وحتى خلفائها من الصورة النمطية التقليدية التي يترصد فيها عملاء محترفون بالقتل، يظهرون فجأة من مكان ما على دراجة نارية ويطلقون الرصاص على ضحاياهم ثم يختفون، وكان آخر هذه العمليات اغتيال فتحي الشقاقي في جزيرة مالطا. الى ان أصبحت هذه العمليات في السنوات الأخيرة اكثر إبداعية تتسق والتباهي أيضا مع الذكاء الإسرائيلي والافتخار بالقوة. الم يقولوا مؤخراً إنه لا توجد مهمة يكلف بها الموساد يعجز عن تحقيقها؟ وهكذا بدءاً من محاولة اغتيال خالد مشعل الفاشلة الى اغتيال محمود المبحوح في دبي، هذا هو الأسلوب الجديد والمبتكر الذي توصلوا اليه والذي يقوم على إخفاء الأثر المباشر للجريمة.
ان القوي لا يدرك الحقيقة وأول هذه الحقائق عبثية ما يفعله في نهاية المطاف، لأن ما يفعله هنا طوال الوقت ليس هو العمل الصحيح، والشيء الصحيح او الحقيقة ليس أن الشعوب مطلق أي شعب يشبه من حيث قدرته على الاحتمال والاحتواء اتساع وعمق البحر او المحيط، ولكن حقيقة ان كل هذه الضغوط إنما على المدى البعيد يجري تخزينها في الظلمة العميقة لهذا البحر الذي تمثله الخافية الجمعية العميقة، «ظلمات بعضها فوق بعض». والتي تتحول في مكان عميق داخل هذا العقل، اللاواعية الباطنية غير المرئية، الى ما يطلق عليها المنظر الصيني العظيم صن تزو «الطاقة الكامنة»، ولكن التي وقد شدت الى أقصاها تتأهب للانفجار.
وهي الحالة نفسها التي يتحدث عنها كلاوزفيتز عما يسميه بالانفعال العميق. ويصفه تشي جيفارا بالحقد على العدو والذي هو الحالة الانفعالية التي تصاحب العنف الثوري او المضاد. وان هذا العنف الثوري المضاد او الانفعال العميق او الطاقة الكامنة والمشدودة الى أقصاها، إنما هو الذي يمكن تشبيهه يا بنيامين نتنياهو بالأزمات الانفجارية للرأسمالية التي تحدث عنها ماركس، وتحدت بصورة متكررة ودورية كأزمات انفجارية متعاقبة كما البراكين للتخلص من شحنتها الكامنة في كل مرة.
الانتفاضة الأولى عام1987، والثانية في العقد الماضي والثالثة الآن. إن أخبار الصباح التي يتلقاها الفلسطينيون كل يوم لا تتبدد مع الهواء، وإنما تتجمع هناك في ذلك المكان العميق الذي تحدثنا عنه، وهو المكان الذي تصدر عنه القوة الحقيقية في حساب توازن القوى، والتي تتفوق على السيف، أي القوة الروحية او الباطنية والتي تحدث عنها نابليون.
وهذا هو في الواقع سر قوة الفلسطينيين ومبعث عنادهم، وأضيف أيضا يقينهم على محور الزمن بالنصر، وهو سلاح لا يمكن انتزاعه منهم. وفي نهاية الأيام ذهبت غولدا مائير التي لم تكن ترى الفلسطينيين كشعب في سبعينات القرن الماضي، الى حملة اغتيالات ضد نشطاء فلسطينيين في أوروبا، كل ما كانوا يفعلونه هو تسويق خطاب سياسي براغماتي ومعتدل، ولكن الآن أين تقف أوروبا؟ لقد كتبوا في بريطانيا على جدران مجلس العموم البريطاني العنوان: أيها المحتلون اغربوا من هنا. ولكن عمر النايف أراد ان ينجو بنفسه ويعيش مع أسرته من دخل محلات خمسة يمتلكها في تجارة الملابس، فلماذا الذهاب إلى قتله؟ قتل ليس له هدف سوى القتل.
وهو استعراض للقوة لا يحمل الفلسطينيين والعالم الا على الشعور بالاشمئزاز اكثر من أي شيء آخر، وازدراء هذا الاستعراض الأرعن للقوة على حد سواء.