السباق المحموم بين السيناريوين السيّئ والأسوأ

ugr5e.jpg
حجم الخط

بقلم: هاني المصري

 

 

 

مع اقتراب الذكرى الثانية للسابع من أكتوبر (2023)، تُكمل حرب الإبادة والتجويع والتهجير والضمّ عامها الثاني. وبينما تطرح عدة سيناريوهات لمستقبل قطاع غزّة والقضية الفلسطينية والمنطقة، بعيداً من المشاركة الفلسطينية. ويبقى التنافس الأشدّ بين السيناريوين، السيئ والأسوأ. أمّا الجيّد ففرصه (بكل أسف) محدودة للغاية. ويتمثّل السيناريو السيئ في إدارة الصراع بلا حسم، ويقوم على وقف الحرب وتبادل الأسرى وانسحاب قوات الاحتلال خلال أشهر قليلة، يليها إطلاق عملية إغاثة إنسانية، وإعادة إعمار بتمويل عربي ودولي وتحت إشراف أميركي، وخروج حركة حماس من الحكم ونزع سلاح المقاومة، وتشكيل سلطة انتقالية تحت إدارة أميركية مباشرة، تعمّق الفصل بين قطاع غزّة والضفة الغربية، لأن المطروح من فِكَر أميركية منح "دور" شكلي للسلطة في قطاع غزّة، كأنها ذكر النحل، ومجرّد لاعبٍ بين عدّة لاعبين، وليست أهمهم، استجابة لطلب الدول العربية التي أصرّت على وجود السلطة كي تعطي شرعية فلسطينية لقدوم قواتٍ عربيةٍ إلى القطاع، وحتى تتمكّن من تمويل إعادة الإعمار. سلطة ربّما يقودها شخصٌ مثل توني بلير، مع ما يشكّله ذلك من سخرية، نظراً إلى أن سجلّ هذا الرجل مع الفلسطينيين والعراق والعرب أسود، ولا يؤهّله للعب دور قيادي في غزّة، بل يقدّمه إلى المحاكمة مجرم حرب. المفترض أن تسأل القيادة الفلسطينية نفسها، ويسائلها الشعب، لماذا تركت الأمور تصل إلى هذا الحدّ فأصبحت الوصاية مطلباً أو واقعاً لا ترغب أو لا تستطيع معارضته. نشر قوة أمنية عربية لفترة انتقالية يعني وضع غزّة تحت وصاية دولية ـ عربية ـ أميركية إسرائيلية، بذريعة ضمان أمن إسرائيل، وسيستمرّ الاستيطان والقضم المتدرّج، والضم الزاحف، وتجميع الفلسطينيين في معازل في الضفة، والتقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى.

سيناريو الوفاق الوطني ممكن أيضاً في حال التوافق على برنامج وطني كفاحي واقعي، يفتح الطريق نحو دحر الاحتلال

يحتمل هذا السيناريو، خصوصاً إذا تغيّرت الحكومة الإسرائيلية الحالية وجاءت إلى الحكم حكومة أقلّ تطرّفاً، إقامة كيان فلسطيني أكبر من حكم ذاتي وأقل من دولة، في أجزاء واسعة من الأرض المحتلة، مع مظاهر سيادية شكلية متفاوتة بين الضفة وقطاع غزّة. وقد يتجسّد هذا السيناريو عبر الفِكَر التي طرحها ترامب على الوفد العربي الإسلامي في نيويورك، وهي مندمجة مع الخطّة العربية، لتصبح الصيغة الأبرز لما يسمّى "الحل الانتقالي". هذا إذا لم يقنع نتنياهو ترامب بالانقلاب عليها أو تعديلها، ما يجعل موافقة "حماس" أو حتى الدول العربية عليها صعبة.
أمّا السيناريو الأسوأ فهو التصفية الشاملة، ويتحقّق مع استمرار الإبادة والتهجير الداخلي، تمهيداً للترحيل الخارجي، واحتلال قطاع غزّة وإعادة الاستيطان فيه، وتهجير واسع النطاق لسكّان غزّة، وربّما إقامة ما سمّي سابقاً بـ"ريفيرا الشرق الأوسط"، وضمّ الضفة الغربية أو أجزاء واسعة منها، وتقويض السلطة الفلسطينية، وتحويلها مجرّد سلطة عميلة أو سلطات محلية مدنية، أشبه بالإدارات الذاتية المنفصلة. كما يتضمن منح الفلسطينيين وضع "المقيم" بلا حقوق قومية أو سيادة سياسية... يعني هذا السيناريو تصفية القضية الفلسطينية من جذورها، ولا مكان فيه لكيان سياسي أو لحقوق وطنية للفلسطينيين.
أمّا السيناريو الجيّد فهو الوفاق الوطني، ورغم ضآلة فرص تحقيقه، إلا أنه ممكن في حال وقف الحرب وانسحاب الاحتلال، وإطلاق سراح الأسرى وتقديم مساعدات إنسانية عاجلة، ثمّ تشكيل حكومة وفاق وطني بمرجعية فلسطينية مستقلة، وإعادة بناء مؤسّسات منظّمة التحرير لتضمّ مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، والذهاب إلى الانتخابات بأسرع وقت ممكن، أو الاتفاق على إدارة حكم واحدة بالتوازي مع ضمان تعدّدية تقويها وتراقبها وتحقّق المشاركة. هو ممكن أيضاً في حال التوافق على برنامج وطني كفاحي واقعي قابل للتحقيق، يفتح الطريق نحو دحر الاحتلال والاستقلال.
غير أن غياب الوحدة والانقسام الفلسطيني، وتهميش منظمة التحرير، وانشغال "حماس" في الحرب والمفاوضات، وخياراتها المحدودة، وعدم اهتمامها بتقديم رؤية شاملة تغطّي الشعب الفلسطيني كلّه، وخطط لتنفيذها تُفرَض على القيادة أو تكون بديلاً واقعياً مما تقوم به القيادة إذا رفضته... هذا كلّه يجعل هذا السيناريو بعيد المنال حالياً، ليبدو السيناريو السيّئ هو الأرجح، لأنه يخدم هدف واشنطن وتل أبيب في إنقاذ نفسيهما من مأزق الحرب التي لم تحقّق أهدافها الكبيرة (الإبادة والتهجير والضمّ والاحتلال والاستيطان والهيمنة على الشرق الأوسط)، جراء الخسائر الفادحة السياسية والقانونية والدبلوماسية والبشرية، وما يتعلق منها بمكانة إسرائيل ودورها في الاستراتيجية الأميركية، رغم الخسائر الكارثية للفلسطينيين. كما أن هذا السيناريو يجنّب المساس بالاستقرار الإقليمي وخطط واشنطن لتوسيع الاتفاقات الإبراهيمية، إذ هدّدت الإمارات والسعودية وبريطانيا وفرنسا وغيرها بإجراءات عقابية ضدّ الضمّ، تشمل وقف الاتفاقات وعدم عقد أخرى جديدة، كما أنه يفتح باب الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين بسرعة، وفي الأيام الأولى بعد وقف إطلاق النار، وإخراج "حماس" من الحكم ونزع سلاح القطاع، ويوفّر فترةً لالتقاط الأنفاس.
يستمدّ السيناريو الأسوأ قوته من طبيعة الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرّفة، ومن تصوّرها بأن لديها فرصة تاريخية يجب عدم إضاعتها، ومن الدعم الأميركي غير المشروط، ومن تركيز إدارة ترامب في إطلاق سراح الأسرى الاسرائيليين إلى درجة أن هناك خشية بعد إطلاق سراحهم أن تعطي الضوء الأخضر لنتنياهو لاستئناف الحرب، خصوصاً أن مصير جائزة نوبل للسلام سيحسم في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، ما يعزّز أوهام "الحسم العسكري للصراع". أمّا السيناريو الجيّد فمستبعد، لأنه يحتاج إلى وحدة وطنية فلسطينية تبدو بعيدة بعد تعمّق الانقسام ووضع شرط إبعاد "حماس" وتسليم السلاح، وبعد مسارعة القيادة الرسمية لتبنّيه ووضع شروط إقصائية على المشاركة في الانتخابات وكأنها شروط فلسطينية. السيناريو الجيّد بحاجة إلى إرادة سياسية غير متوفّرة لدى طرفَي الانقسام، خصوصاً لدى القيادة. إرادة ترفض الوصاية والترويض وتعطي الأولوية للوحدة والمصلحة الوطنية، وليس لهذا الفصيل أو ذاك، والرهان على الذات، وليس على الآخرين، وتتمسّك بحقّ المقاومة، وتستثمر الحراك العالمي الواسع المتضامن مع فلسطين والمرشّح للتزايد.

تبدو الوحدة الوطنية الفلسطينية بعيدةً بعد تعمّق الانقسام ووضع إبعاد "حماس" من الحكم شرطاً للحل الانتقالي

ما يجري اليوم يؤكّد مجدّداً أن للقوة حدوداً مهما بلغت، فإسرائيل التي تصوّرت أنها قضتْ على إمكانية قيام دولة فلسطينية، تجد نفسها بسبب تطرّفها وتماديها أمام واقع يجعل هذا الاحتمال أقرب من أيّ وقت مضى، لكن ذلك مرهون بقدرة الفلسطينيين على صياغة رؤية جديدة، وقيادة وطنية واحدة تستفيد من التحوّلات الدولية، وتحوّل التعاطف العالمي الواسع والمرشّح للتزايد بعد اتضاح حقيقة المشروع الصهيوني بوصفه مشروعاً استعمارياً استيطانياً عنصرياً، يهدف إلى التوسّع والهيمنة وطرد الفلسطينيين، وليس العيش معهم بأمن وسلام، فالاستقلال بحاجة إلى ضغط حقيقي يفرض على إسرائيل الانسحاب، ويجعل احتلالها أكثر كلفةً من بقائه، وليس العودة لإعادة إنتاج المفاوضات التي استُخدمت للتغطية على ما تقوم به حكومات إسرائيل المتعاقبة، التي فرضت حقائق احتلالية وعنصرية واستيطانية تجعل الحلّ الإسرائيلي الحلّ الوحيد المطروح عملياً.
قد يكون السيناريو السيئ المتاح حالياً، لكنّه لا يجب أن يكون النهاية. بل على الدول العربية والإسلامية والصديقة أن تستجيب لنداء شعوبها بتحقيق الحرية والعدالة للشعب الفلسطيني، وعدم الاكتفاء بوقف الحرب والانسحاب، بل مساعدة الفلسطينيين على اعتبار ذلك مرحلةً انتقالية لالتقاط الأنفاس، واستخلاص الدروس، والتقدّم نحو صياغة مشروع وطني واقعي وكفاحي يحمي الشعب الفلسطيني ويصون قضيته. وسيكشف لقاء نتنياهو وترامب (لم يُعقد لحظة كتابة هذا المقال) أيّ طريق ستسلك الأحداث: وقف الإبادة أم استمرارها.. نحو السيناريو السيئ أم السيناريو الأسوأ.