سنظل أسرى (التابو) العربي وهو تجنُّب الحديث عن الآثار الأخلاقية والثقافية والاجتماعية الخطيرة على الفلسطينيين بسبب هذا القمع العنصري، وسنظل نُخفي عيوبنا ونقائصنا وأمراضنا الاجتماعية حتى لا يشمت بنا أعداؤنا، هذا التقليد الموروث سببٌ رئيس في تخلفنا!
كتبتُ الأسطر السابقة بعد أن قرأتُ في صحيفة يديعوت أحرونوت، وفي صحف أخرى إسرائيلية يوم 28-9-2025 إحصاءً صادماً لنسبة الراغبات والراغبين في الطلاق في إسرائيل بسبب استدعاءات جنود الاحتياط، هذا الإحصاء لم تنشره منظمة غير حكومية، أو مركز أبحاث خاص، بل نشره مركز الإحصاء الحكومي الإسرائيلي المركزي!
ومن أبرز النسب المئوية للشرخ الاجتماعي في إسرائيل نتيجة استدعاء جنود الاحتلال لتدمير بيوت أهل غزة، وقتل الأطفال والشيوخ، أن 34 % من زوجات الجنود الإسرائيليين فكرن بالطلاق، هذه النسبة كانت بسبب الضائقة وغياب الزوج ونقص المال، ومما جاء في الإحصاء أن 55 % من أسر الجنود تضرروا نفسياً، وأن 55 % طلبوا العلاج من مؤسسات الصحة النفسية، وتزداد نسب المتضررين إذا زاد عددُ أطفال تلك الأسر، فكل أسرة لها ثلاثة أطفال إلى خمسة أطفال، تصل نسبة الرغبة في الانفصال بين الزوجين إلى 60 %!
كثيرون من الحالمين سيعتبرون ذلك بداية هزيمة إسرائيل وتفكك المجتمع الإسرائيلي، وقد يعتقد كثيرون أيضاً أن تلك النتائج هي بداية وعد الآخرة!
مع العلم أن استطلاعات الرأي هي سلاحٌ بتَّار في ألفيتنا الثالثة، وهي إحدى أبرز معاول التقدم والرقي، فكل مجتمع لا يعتمد على نتائج الإحصاءات في الألفية الثالثة سيظل عاجزاً وغير قادر على اللحاق بركب الحضارة والتقدم، وسوف يفقد أهم ركن من أركان النصر وهو علاج الأمراض الاجتماعية وتسديد معوقات النهضة، وهي الخطوة الأساس للمنافسة والتفوق!
حاولت وأنا في خيمة النزوح في غزة تسجيل بعض حالات التفكك الأسري في المجتمع الفلسطيني بفعل ضائقة الجوع والقتل والتشريد والنزوح وفقدان معيلي الأسر، حاولت أن أسجل بعض اللقطات التي تحولت إلى ظواهر خطيرة في المجتمع الفلسطيني، وبخاصة قضايا الفساد الأخلاقي والطلاق والزواج في خيم النزوح، وقد وصل الأمر عند بعض الفلسطينيين أن يؤجروا بعض الخيم لممارسة العلاقات الحميمة بين الأزواج، باعتبار هذه المهنة تجارة مُربحة، ولكنني توقفت عن نشر تلك الأمراض بسبب رقابتي الذاتية العربية على هذه القضايا، لأنها لن تجلب لي النقد فقط، بل إنها ستجلب الاتهام والتجريح.
سأظل أتذكر كيف تمكن المحتلون من استخدام سياسة ضغط الأسر في مناطق مقصودة لغرض إمراضنا نفسياً، وجعلنا نقتتل مع بعضنا، وذلك تمهيداً لجعلنا نقبل واقعنا الأليم!
ليس سراً أن المحتلين كانوا يعرفون أن ضغط تلك الأسر سيُلجئ الجميع للاحتماء في مدارس أبنائنا ومعاهدهم، ونظراً لهذه السياسة المقصودة بضغط الأسر والعائلات في غرف الدراسة، جرى تدمير تلك المؤسسات التعليمية بإحراق محتويات المدارس الثقافية؛ الورقيات والمكتبات ومقاعد الدراسة وكل الأخشاب ليجعلوها وقوداً لينضجوا طعامهم، أو ليبيعوا أخشابها بالكيلو كمصدر لجلب النقود، ونسي الأهل المحاصرون المقهورون في المدارس مستقبل أبنائهم وحرمانهم من الدراسة، وأثر هذا الحرمان على مستقبلهم ومستقبل وطنهم!
كما أنهم غضوا الطرف مجبرين ومُكرهين عن تحول أبنائهم من تلاميذ وطلاب يطلبون العلم والثقافة والحنان إلى عمال يجلبون الماء والحطب، ولم يكتفِ بعض الآباء بذلك بل حولوا أبناءهم بسبب الضائقة إلى بائعين متجولين في الأسواق، كذلك فإن كثيرين استخدموهم أيضاً جنوداً يحملون العصي والسكاكين والأسلحة!
مع العلم أن هناك بعض المؤسسات كانت تحاول أن تتغلب على ظاهرة تدمير المؤسسات التعليمية بعقد دورات تدريس اجتهادية، ولكنها لم تنجح للأسف!
وفي هذا الإطار نفسه لجأت أسرٌ عديدة للسكن في المستشفيات والمراكز الصحية ظناً منها أنها ستكون حصينة ضد قنابل المحتلين، ونظراً للعدد الكبير في هذه المستشفيات فقد انتفى نظام التعقيم الطبي، وغصت غرف العمليات بالجرحى والمحتاجين للعناية، ولم يعد هناك نظامٌ في تلك المستشفيات، وكانت خزائن الأدوية مفتوحة للجميع، حتى أن أحد الأطباء فشل في إيجاد مكان صغير لينقذ مريضاً كان يعاني من إصابة في أعضائه التناسلية، وقد شاهدت بنفسي هذا المنظر في أحد مستشفياتنا!
ولكنني علَّبتُ كثيراً من تلك القصص، بخاصة قصص العودة إلى شرانق القبائل والعائلات ليس بغرض تعزيز الوطنية ومواجهة مخططات الاحتلال ونشر الاتحاد والمحبة وتسديد النقص، بل لغرض فرض الهيمنة والسيطرة على الآخرين، وجلب الربح لبعض الشخصيات في تلك العائلات، بصرف النظر عن الحالة التي تعيشها تلك العائلات، فهي واقعة تحت احتلال عنصري قاتل، كان مفروضاً أن تتولى الإصلاح ونشر المحبة وليس نشر السلاح الانتقامي!
سأظل أتذكر منظر عائلة اجتمع معظم أفرادها وسكنوا في مدرسة قريبة من خيمتي، هؤلاء كانوا يطردون الأسر الصغيرة من الغرف التي يحتجزونها ويحتكرونها لأفراد قبيلتهم التي لم تنزح بعد، هؤلاء كانوا معتادين عند وجود مشكلة عادية مع أبنائهم الصغار أن يخرجوا من مدرسة الإيواء ومعهم أسلحتهم في مسيرة كبيرة يحملون العصي والسكاكين وحتى الأسلحة يهددون بها الآخرين من منافسيهم! وما زلت أذكر أيضاً أن قبيلة أخرى كبيرة اعتبرت أفراد قبيلتها بديلاً عن الشرطة والأمن، قام أفرادها بمطاردة ومصادرة بعض المواد من بعض الخيم بادعاء أنها مسروقة من قوافل الأغذية المجانية، مع العلم أن بعض أفراد هذه الأسر كانوا من لصوص القوافل نفسها، كما أن عائلة أخرى كانت معتادة أن تأخذ أضعاف نصيبها من المعونات، وكان الموزعون يخشون بطش هذه العائلة!
مع العلم أن هناك بعض المخاتير والمصلحين الاجتماعيين ظلوا مُصرين على أن يمارسوا دورهم النضالي في المجتمع الفلسطيني، وظل هؤلاء يرفضون إغراءات النفوذ والثروة، هؤلاء معروفون بالاسم، كان يجب أن يسجلوا إنجازاتهم لتكون ضمن الإنجازات الوطنية الفلسطينية التي تتحدى المؤامرة!
ظللتُ أحجم عن نقد بعض المسؤولين وبعض المنتمين للجمعيات غير الحكومية وبعض مندوبي التوزيع في المؤسسات الدولية والكبيرة، لأن مشاهداتي لم تكن مدعومة بملفات إدانة كافية، على الرغم من أنني كنتُ أشاهد كيف يُلقي بعض المسؤولين المنهوبات من المساعدات المجانية من فوق الجدران لذويهم خارج المكان، كنت أظنُّ أن تلك الممارسات موجودة في كل بلدان العالم وقت النكبات الكبيرة التي قرأت عنها، حدثت السرقات حتى أثناء كارثة هيروشيما في اليابان 1945، كان هناك عدد كبير من الخروقات بسبب الكارثة، غير أن اليابانيين أجروا بسرعة البرق تقييماً لتلك الممارسات وأعادوا عجلة النظام إلى خط سيرها المحدد بعد وقت وجيز، فهل سنتمكن نحن من الاقتداء بتجارب تلك الدول؟
إن إجابة السؤال تكمن في استحداث استطلاعات الرأي، لأنها تحدد الأمراض الاجتماعية ونسب المصابين بها، استطلاعات الرأي في عالم اليوم سلاح خطير بخاصة إذا كانت لمصلحة الوطنية والعدالة والإنصاف في الوطن، هذه الاستطلاعات ضرورية جداً في مجتمعنا الفلسطيني!
يمكنني أن أتساءل: هل هناك جهة فلسطينية تتابع انهيار منظومات الأخلاق في غزة؟ وهل هي قادرة على وضع استنتاجات مبنية على خطط عملية لمحاصرة نتائج انهيار المنظومة الأخلاقية والوطنية، ووضع استبانات عن عدد تجار السوق السوداء ممن أثروا فجأة بوساطة استغلال حاجات إخوانهم الضرورية؟
وهل هناك رصدٌ لأبشع ظاهرة في تاريخنا الفلسطيني، وهي سرقة محتويات بيوت المُهجَّرين وبيعها في الأسواق؟
وما عدد الراغبين في الهجرة الطوعية مثلاً؟ وهل هناك منظمات وجمعيات نسائية قادرة على تحديد نسبة حالات الرغبة في الطلاق بسبب ضائقة الجوع والترحيل والنزوح المتكرر؟
وهل هناك استبانات عن عدد الأطفال اليتامى ممن فقدوا عائلهم ومصادر دخلهم؟
وهل هناك محاولة لوضع برنامج ومخطط تعليمي وتربوي لتعويض أبنائنا ما فاتهم من مقررات دراسية؟
وهل هناك استبيانات عن عدد الفتيات اللاتي جرى زفافهن في الخيام هروباً من ضائقة القهر وبضغط أسري، وليس برغبة من الفتيات أنفسهن؟
كثيرون سيقولون كيف سيتم ذلك في هذا الجو العنصري والتدمير والنزوح وعدم القدرة على إيجاد شبكة إنترنت ومكاتب ودفاتر وأقلام؟
في الحقيقة أنا أفهم هذه التحفظات، ولكنني أحاول تحفيز المخططات التي يمكن وضعها مبكراً، حتى نتمكن من معرفة أمراضنا وعيوبنا تمهيداً لوصف العلاج اللازم للإشفاء من تلك الأمراض!
قصة التجويع والترحيل في غزة!
17 سبتمبر 2025