مع دخول العام الثالث من حرب الإبادة التي حصدت أرواح عشرات الآلاف ودمرت البنية التحتية الإنسانية في غزة، يعلو الصوت بضرورة وقف نزيف الدم. العالم العربي والإسلامي تحرك من خلال تحالف دبلوماسي تقوده المملكة العربية السعودية وفرنسا، محاولًا الدفع باتجاه حل يوقف الحرب ويفتح مسارًا سياسياً جديداً.
الولايات المتحدة، من خلال إدارة ترامب، استقبلت القادة العرب والمسلمين في لقاء وُصف بالإيجابي جداً، ثم تبعه لقاء مع نتنياهو نتجت عنه إعلان مبادىء لوقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن. اللافت أنّ هذه المبادىء/الخطة لم تعكس بالضرورة تفاصيل ما نوقش مع الوفد العربي والإسلامي.
القبول –ولو جاء متأخرًا– قد يُحقق الخطوة الأكثر إلحاحًا: وقف الحرب والإبادة الجماعية. هذا الخيار يعني أيضًا إطلاق سراح الرهائن وعدد من الأسرى الفلسطينيين، والانتقال إلى مرحلة غير مضمونة تتعلق بمدى التزام إسرائيل ببنود الاتفاق، سواء بالمماطلة أو بالانخراط الجاد في عملية سلام إقليمية تخدم هدف ترامب بنيل جائزة السلام.
ورغم الشكوك الكبيرة بشأن النوايا الإسرائيلية، فإن القبول يُعفي الفلسطينيون من أي مسؤولية سياسية أو دبلوماسية في حال تعثر أو خرق الاتفاق. كما يتيح لهم التمسك بالزخم الدبلوماسي الذي تحقق في نيويورك، وتوظيفه لتعزيز الحضور الفلسطيني على الساحة الدولية، وقطع الطريق على محاولات تبرير الجرائم الإسرائيلية.
أما الرفض، فهو يحمل كلفة مضاعفة، إذ سيضع اللوم على الجانب الفلسطيني وحده، ويفسح المجال أمام استمرار الإبادة الجماعية والتدمير المنهجي لمقومات الحياة في غزة، مع المضي قدمًا في مشروع الضم وإلغاء الحقوق الفلسطينية. كما أن الرفض سيضعف ان لم يقضِ على الجهد العربي والإسلامي الدبلوماسي، ويُفقد الفلسطينيين الدعم الذي نجحوا في حشده خلال الأشهر الماضية.
مبادئ ترامب تحمل في طيّاتها مخاطرة حقيقية وفرصًا محتملة، لكن "الشيطان يكمن في التفاصيل"؛ فهذا الطرح قد يقود لإعلان غزة ككيان منفصل وقد يتحوّل إلى وصاية جديدة تُرسّخ الانفصال عن الضفة بدل أن تؤدّي إلى تحقيق استقلال فلسطيني حقيقي.
المشروع الإبراهيمي النيوليبرالي قائم ليس على تفويض أممي، بل على تراكم تفاهمات سياسية–اقتصادية–أمنية إقليمية، ويخدم توازنات القوة الحالية أكثر من أن يضمن حقّ تقرير المصير. وهنا قد تُستخدم "الوصاية الإبراهيمية" للحفاظ على غزة داخل سقف "السلام الاقتصادي" من دون منحها سيادة واستقلالًا فعليين. فصيغة "الإبراهيمي–النيوليبرالية" أقرب إلى إدارة إقليمية اقتصادية–أمنية تُبقي موازين القوى كما هي وتؤمّن مصالح إسرائيل والدول الإقليمية، بدل أن تنهي الصراع من خلال إقامة سيادة فلسطينية موحّدة تضمن حقّ تقرير المصير.
كما أن تغييب مؤسسات السلطة، وتهميش دور الأمم المتحدة، وتغيّب احترام القانون الدولي، كلّها عوامل تقوّض إمكانيّة إقامة دولة فلسطينية مستقلّة وتلغي فعليًا حقّ تقرير المصير. آخذين بالاعتبار كل ما ذُكر، يبقى جوهر الواقع والقضية في تعزيز الدبلوماسية لا إسقاطها؛ لا يمكن القول إن القبول سيُنهي تمامًا سيناريوهات الضم والتطهير العرقي. لكن القبول يُمثل وسيلة لدعم التحرك العربي–الإسلامي، وتوظيف الإنجازات السياسية في الأمم المتحدة، وتثبيت حق الفلسطينيين كشريك لا يمكن تجاوزه، فيما الرفض يضعف الموقف الفلسطيني ويُعطي إسرائيل الغطاء لمواصلة سياساتها الإجرامية.
- القبول لا يعني نهاية معاناة الفلسطينيين أو اختفاء مخاطر الضم والتطهير العرقي والمشروع الكولونيالي، لكنه خطوة تُمكّن الدبلوماسية الفلسطينية وتُعزز الشرعية الدولية. الرفض، بالمقابل، قد يُرضي منطق الصمود لكنه يضع الفلسطينيين في مواجهة حرب مفتوحة دون أي غطاء سياسي.
- القبول ليس تنازلًا عن الحقوق، بل استثمار للزخم الدولي ودرع يحمي الشعب من الاستمرار في الإبادة. الرفض قد يبدو موقفًا مبدئيًا، لكنه يترك الفلسطينيين وحدهم في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية.
- القبول ليس تنازلاً عن الحقوق، بل أداة لتعزيز الدبلوماسية ومنع إسرائيل من الإفلات من المحاسبة. أما الرفض، فيُخاطر بتبديد الزخم الدبلوماسي، ويترك الفلسطينيين وحدهم في مواجهة حرب وجودية.
الاختيار اليوم ليس بين سلام مثالي أو استمرار المقاومة، بل بين فتح نافذة أمل دبلوماسية في ظل دعم دولي متزايد، أو إغلاقها بما يخدم رواية الاحتلال.