حين تتكلم الذاكرة: وجع السابع من أكتوبر وأسئلة الغد

تنزيل.jpg
حجم الخط

بقلم د احمد يوسف

في الذاكرة الفلسطينية المثقلة بالنكبات، تبقى بعض الأحداث عصيّة على النسيان، لأنها تنطبع في الوجدان جرحًا ودرسًا معًا. فالعدوان الثلاثي عام 1956 وحرب 1967 كانا محطتين من القهر والنزوح، ما زالت تفاصيلهما محفورة في ذاكرة الأجيال. واليوم، ونحن نعيش الذكرى الثانية للسابع من أكتوبر، نستعيد ذات المأساة بصورة أشدّ قسوة، حيث حرب الإبادة والتهجير القسري التي جعلت من غزة جرحًا مفتوحًا على العالم.
قد تتباين القراءات السياسية حول ما جرى، بين من يراه عملًا بطوليًا فُرض بالضرورة، ومن يعدّه مغامرة غير محسوبة العواقب. وبرأيي، كانت معركة "طوفان الأقصى" فعلًا جريئًا في شكله، لكنه استند إلى تقديرات خاطئة لطبيعة التحالفات وموازين القوى الدولية، فانتهى بمأساة إنسانية طاحنة طالت أكثر من مليوني نازح، فقدوا المأوى والكرامة معًا.
ومع ذلك، فإن ما بعد الكارثة لم يكن كله خسارة. فالقضية الفلسطينية استعادت مكانتها في الوعي الدولي، وتزايدت الاعترافات بالدولة الفلسطينية، وبرز تحول نوعي في الرأي العام الغربي، خصوصًا في أوروبا وأمريكا، حيث تعالت الأصوات المطالبة بإنهاء الاحتلال ومحاسبة إسرائيل على جرائمها. كما أن صور الإبادة الجماعية أعادت إشعال جذوة الرفض الشعبي للتطبيع مع إسرائيل في أوساط الأمة العربية والإسلامية.
أما على الجانب الإسرائيلي، فقد كشفت الحرب زيف مشروع "إسرائيل الكبرى"، وأظهرت هشاشة حكومة نتنياهو التي تواجه اليوم عزلة داخلية وخارجية، واحتمال سقوطها بات وشيكًا، وربما تُحسم نهايته داخل أروقة القضاء بتهم الفساد القديمة.
وفي المقابل، يعيش الفلسطينيون اليوم في مخيمات النزوح على مساحات لا تتجاوز 30% من قطاع غزة، في ظروف قاسية تُفرغ المساعدات الإنسانية من معناها، إذ تحولت إلى "مصائد موت" تستدرج الشباب إلى الخطر لقاء كيس طحين أو طرد غذائي.
ويبقى السؤال الأهم: ما بعد الحرب.. ماذا بعد السابع من أكتوبر؟
هل سيُشطب اسم حماس من الخريطة السياسية؟
وهل ستستعيد السلطة الوطنية مكانتها؟
وما مدى جدية الطرح الأمريكي بإسناد مهمة الإشراف على غزة لتوني بلير؟
في تقديري، ستكون مصر صاحبة الدور المركزي في صياغة اليوم التالي، وفي رعاية المصالحة الفلسطينية، بحكم خبرتها التاريخية وصلاتها الوثيقة بالرئيس عباس والفصائل كافة. والمستقبل الفلسطيني، إن أُحسن إدارته، يمكن أن يستلهم تجربة جنوب أفريقيا في النضال اللاعنفي ضد نظام التمييز العنصري.
الخطوة المفصلية القادمة هي جمع شمل الفلسطينيين، خصوصًا داخل حركة فتح، من خلال مصالحة بين الرئيس أبو مازن والنائب محمد دحلان، بما يعيد للحركة توازنها، وللمشروع الوطني زخمه. فدحلان، بثقله التنظيمي وعلاقاته العربية الواسعة، وبما له من تفاهمات مع حماس، قد يشكل عنصر توازن في إدارة المرحلة المقبلة من إعادة الإعمار والحكم في غزة.
إن تقليص الدور الخارجي، وفي مقدمته دور توني بلير، مرهون بقدرة الفلسطينيين على التوحد خلف منظمة التحرير الفلسطينية كإطار جامع وشرعي، وإعادة بناء النظام السياسي على قاعدة الشراكة والتعددية. أما فصائل العمل الوطني والإسلامي، فعليها الانتقال من منطق الفصيل إلى منطق الحزب السياسي الوطني، الذي يعمل تحت سقف الشرعية الفلسطينية الجامعة.
إن ذكرى السابع من أكتوبر تذكيرٌ مؤلمٌ بعمق الجرح، لكنها أيضًا دعوةٌ للتأمل في معنى البطولة والثمن الباهظ الذي دفعناه جميعًا. والمستقبل، رغم قتامته، ما زال مفتوحًا أمام إرادة الفلسطينيين إذا استطاعوا أن يجعلوا من الكارثة بداية جديدة لنهضة وطنية شاملة، تُبنى على الوحدة والعقلانية والاعتبار من دروس الألم.
وقديمًا قالوا: لا شيء يجعلنا عظماء غير ألمٍ عظيم.