يمكن للمرء أن يقول أخيراً، متمنياً أن تكون هذه التنهيدة النهائية. تبدو الحرب وقد شارفت على نهايتها بعد أن تم الاتفاق على المرحلة الأولى من مقترح الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ولكن كالعادة يظل المرء قلقاً حتى يتم تثبيت الاتفاق بشكل نهائي، رغم أن المراحل التالية من مقترح ترامب تشير في مضمونها وجوهرها إلى كوارث وطنية تتعلق بمستقبل قطاع غزة. ولوهلة يمكن للمتابع أن يدرك أن الجميع بات معنياً أكثر بالمرحلة الأولى فقط، وهو ما يثير المخاوف من تفجر الوضع بعد ذلك، ومرد هذا فهم طبيعة دوافع اللاعبين جميعاً وتوقع تصرفاتهم وفق هذه الدوافع. لا يوجد شيء مؤكد حتى اللحظة، إلا أن وقف إطلاق النار دخل حيز التنفيذ دون أن تكون الحرب فعلاً قد انتهت. وبقدر الأماني الكبيرة والتوقعات الضخمة التي رافقت جهود الرئيس الأميركي الذي لقى إطراء من جميع الأطراف، إلا من الجهة الوحيدة التي كان يريد نظرة استحسان منها، أقصد لجنة نوبل، إلا أن الاتفاق يظل هشاً وضعيفاً، كما أن التعمق في دوافع الأطراف يقود إلى التشاؤم الذي يحمل كوارث حقيقية في حال تفجرت الأوضاع مرة أخرى. ومع هذا، فإن الحرب كما نعرفها انتهت، بمعنى أن أي تصعيد قد يأخذ أشكالاً مختلفة. أيضاً الأمر لا يقع في باب التخمين والظن، إذ إن كل المؤشرات تقول إن الجميع كان معنياً بالبند الأول من الاتفاق لأنه الجوهر الأساس لعدم استمرار الحرب.
بالنسبة لإسرائيل، فإن استعادة الأسرى العشرين الأحياء ومن ثم جثامين من قتلوا خلال الحرب هي الأولوية الأولى، خاصة لجملة أسباب، أولها يتعلق بتطلعات الشارع الإسرائيلي، وليس برغبة نتنياهو. فإذا كان نتنياهو يريد ثلاثة أشياء فهي الحرب ثم الحرب ثم الحرب. وعند سؤال أصغر فلسطيني حول مدى ثقته بالجانب الإسرائيلي، فإن الإجابة لن تزيد عن صفر، وعليه فإن ثمة شكاً يبدو في محله من أن نتنياهو بمجرد الحصول على الأسرى قد يفكر في كيفية تفجير الأوضاع. سيستخدم ورقة الجثامين كمسمار جحا من أجل القول: إن «حماس» لم تلتزم بما تم الاتفاق عليه. وفي حال تم ردعه، فإن سيطور عمل اللجنة الدولية لتكون أداة إسرائيلية (وهذا لن يعجب بعض الدول التي تشارك فيها وقد تنسحب منها لاحقاً) لشرعنة استمرار الوجود العسكري الإسرائيلي في القطاع. وهذا يتطلب علاقة ما مع «حماس».
لاحظوا أن تشكيل قوة دولية، بمشاركة إسرائيل والولايات المتحدة، سيعني بالضرورة وجود «حماس» معها لتنسيق عمليات البحث؛ ففي النهاية الذي يمكن له أن يخمن أماكن دفن أو اختفاء جثث الأسرى هي «حماس». وعليه سنشهد ربما تنسيقاً أمنياً وميدانياً «حلالاً» هذه المرة لأنه يتم بوجود «محرم» والمتمثل بالقوات الدولية. تذكروا أن أبرز سمات السياسة في الشرق الأوسط أن المؤقت يصبح دائماً. اتفاقية أوسلو الذي كان يجب أن تستمر فقط خمس سنوات امتدت ثلاثين سنة، وغير ذلك من الشواهد في الدول المجاورة مثلاً الصراع في سورية قبل سقوط الأسد استمر قرابة 15 سنة. ما يقترحه هذا القول إن الخرائط التي تم نشرها لقطاع غزة، والتي يتم وفقها تقسيم القطاع إلى أربع مناطق قطاعية (أوسلو استخدمت الأحرف الهجائية (أ وب وج) واتفاق ترامب استخدم الألوان، لأننا يجب أن نكون مختلفين عن أوسلو الرجيمة) قد تصبح مناطق دائمة أو هي الأساس الذي وفقه يتم تحديد مستقبل قطاع غزة.
بالنسبة لـ»حماس»، فإنها تعرف أن القبول بكل مقترحات ترامب يعني خروجها من المشهد السياسي والوطني بشكل كامل، خاصة بعد قبولها الطوعي بتفكيك سلاحها وتسليمه ونفي قياداتها، لذلك فإن الحل الأفضل كان بإغراء ترامب بالأسرى الإسرائيليين. تذكروا هؤلاء الذين دفعت غزة كل هذا الثمن من أجل احتجازهم. وجزئياً نجحت «حماس» في جعل وثيقة ترامب مادة للتفاوض بعد أن كان معروضاً عليها إما أن تقبلها أو ترفضها. وربما تظن «حماس» أنها بذلك ستتهرب من بنود وثيقة ترامب الأخرى، وستكون مخطئة وقتها؛ لأن عليها أن تختار عند ذلك بين تنفيذ بقية البنود أو العودة للحرب أو الاتفاق الشامل مع إسرائيل وفق عملية سلام جديدة. لاحظوا كيف أن ترامب في الآونة الأخيرة يتحدث عن عملية سلام وعن استعداد «حماس» للسلام. وأيضاً حين سئل عن رأيه في حل الدولتين، قال: إنه غير متأكد من الأمر. لأن النتيجة الحتمية للترتيبات التي وضعها اتفاق ترامب في حال تم تنفيذه بحذافيره أو تم تدجين «حماس» من أجل الدخول في عملية سياسية مع إسرائيل حول غزة هو «كيانية» فلسطينية في غزة. وهنا يمكن أن نسأل عن دور السلطة وموقعها من كل ما يجري، ورغم أن الكثيرين يقولون إن السلطة يجب ألا تحضر المفاوضات التي جرت حتى لا تتحمل تبعات أخطاء «حماس» في حروبها، إلا أن السؤال برسم الإجابة المرة يظل قائماً: هل كان هذا الغياب صحيحاً؟ وإذ كان كذلك فهل ثمة لحظة سيكون فيها لها دور؟ يعني بالبلدي «حكينا مع حدا في الموضوع، حدا حكى معنا».
بالنسبة لترامب، فإن كل ما يهمه هو أن يحتضن الأسرى الإسرائيليين، ويسجل أنه من أطلق سراحهم، وأنه من أوقف الحرب حتى لو كانت ستشتعل بعد ذلك، على الأقل نجح في الضغط على الجميع، وفي الحقيقة لم يكن يمكن تحقيق ما جرى لولا شخصيته العنيفة مع الجميع. عموماً سيحاول ترامب أن يحقق ما تحدث به عن عملية سياسية وهذه المرة ستكون «حماس» طرفاً فيها.
بالنسبة لإسرائيل، مرة أخرى، أي شيء ممكن ومقبول إلا أن تقوم دولة فلسطينية. كل شيء ممكن حتى الاتفاق مع «حماس». أما أهداف الحرب فهي كانت دائماً مادة دعائية، ليس إلا، يمكن تغييرها من وقت لآخر، وهكذا فعل نتنياهو.
عامان على حرب غزة: إسرائيل تخسر حرب الرواية
08 أكتوبر 2025