إعدامات استفزازيّة ومُشينة

تنزيل (1).jpg
حجم الخط

الكاتب: عبد المجيد سويلم

 


إعدامات حركة حماس الميدانية في قطاع غزّة، كما ظهرت في بعض المشاهد التي انتشرت على نطاق واسع خلال اليومين الأخيرين لا يمكن قبولها أو تقبُّلها أو السكوت عنها، وذلك لأنها تتنافى كلياً مع مصلحة الذين أقدموا عليها، وهي تسيء أيّما إساءة إلى الحالة الوطنية كلها بكل أطيافها، وعلى مختلف توجُّهاتها، وإلى صورة فلسطين لدى ملايين من أحرار العالم الذين وقفوا إلى جانبنا بكل شهامة وشرف من موقع البعد الإنساني والسياسي والتحرُّري في كفاح شعبنا.
صحيح أنّ بعض العصابات قد عاثت في القطاع، بحماية وتشجيع من قوات الاحتلال والأذرع الأمنية الإسرائيلية، وأن هذه العصابات قد استغلّت المأساة الإنسانية لأهلنا في القطاع بكل أشكال الخسّة والفجور، وبأحطّ الوسائل والأساليب، وبأنذل السلوكيات وأحقرها، ربما فاق كل تصوّر على الإطلاق، وقد لعبت دوراً مكشوفاً في سرقة النزر القليل من المساعدات الشحيحة التي كانت تدخل القطاع أحياناً.
وصحيح، أيضاً، أنّ هذه العصابات كانت تشكّل «عيوناً» خاصة للاستخبارات الإسرائيلية عن تحرّكات المقاومين، وعن أماكن تواجد بعض القيادات الميدانية، وتقوم بتزويد هذه الاستخبارات بالإحداثيات والمواقع، وأحياناً الدقيقة والمؤكّدة حول حركة المقاتلين والقيادات الوطنية عموماً، إلّا أنّ كل ذلك لا يبرّر الطريقة التي تصرّفت بها الحركة، أو من هم في عداد وفي إطار قواتها بصورة لا تخلو أبداً من الروح الانفعالية والانتقامية البعيدة كل البعد عن التقاليد الوطنية، وعن إخضاع كل من أجرم بحقّ الشعب والمقاومة لسلطة القانون، مهما كانت الحالة القانونية في القطاع ضعيفة وهشّة بحكم حالة الدمار الكبيرة التي تعرّضت لها الشرطة والمحاكم وقوات إنفاذ القانون.
فالإعدامات الميدانية لا تستجلب غير المزيد من التوتّر، والمزيد من إذكاء روح الانتقامات المتبادلة، والمزيد من الاستخفاف بمبدأ سيادة القانون، وتحويله إلى مجرّد شعارات خالية من كلّ مضمون.
والإعدامات الميدانية ليست ومطلقاً الطريقة الأنسب لمحاسبة كل من طعن الشعب، وكل من نذر نفسه لخدمة دولة الاحتلال المجرمة، وجيشها الفاشي الذي أمعن بقتل وتقتيل النساء والأطفال في القطاع.
والإعدامات الميدانية ليست الطريقة المُثلى لردع هذه الفئات الضالّة التي باعت شرفها للاحتلال، وتآمرت على أبناء الشعب في أصعب ظروف محنته الإنسانية المأساوية. والإعدامات الميدانية ليست دليلاً على بأس المقاومة، لأن بأس المقاومة يكون أقوى ألف مرّة عندما يكون موجّهاً لقوات الاحتلال، في الوقت الذي يفترض أن تبدي فيه قوات المقاومة والشرطة أعلى درجات الالتزام بالقوانين والمتطلّبات القانونية لإنفاذها، وبأعلى درجات المحافظة على حساسية الظروف، وعلى أعلى درجات الحرص على التماسك الوطني والاجتماعي مهما كانت بشاعة الدور الذي مارسته هذه الفئات المارقة المأجورة.
والإعدامات الميدانية تأتي في ظل تحكُّم الاحتلال بشبكات واسعة من وسائل التضليل الإعلامي، وبكل ما يمتلكه من مئات، وربما آلاف الوسائل الإعلامية الفعّالة، والمواقع التي تنتشر وتنشر عشرات آلاف الأخبار الموجّهة والمسمومة الهادفة إلى إيقاع الفتن، وإذكاء النعرات، وإثارة الحساسيات في مجتمع لم يخرج من أجواء حرب إبادية بشعة، ومن مشاعر طاغية، وصور مروّعة من صور الإعدامات التي كانت تمارسها، وما زالت تمارسها قوات الاحتلال.
أما التبريرات التي سيقت للإقدام على هذه الإعدامات فهي وإن كانت في سوادها الأعظم صحيحة، ودقيقة من حيث ثبوت التهم، ومن حيث كونها مدعومة بالكثير من الشواهد والوثائق إلّا أن مكان تقديمها هو المحاكم المستعجلة، وليس الحكم على هذه الفئات والعصابات دون أيّ شكل من أشكال المحاكمة.
ولعلّ أخطر ما يمكن أن يترتّب على هذا الشكل من الفوضى في التعامل مع قضايا بمثل هذه الحساسية هو التأثيرات السلبية لهذا النوع من الفوضى على كل الذين يضمرون الشرّ للمقاومة، وما قدّمته من بطولة وتضحيات، حيث سنشهد حملات واسعة من التشهير بدلاً من سدّ كل المنافذ أمام كل هؤلاء الذين ينتظرون أدنى فرصة لهذه الحملات، ويفتّشون عن أي خطأ، والعمل على تضخيمه للإيقاع بين الناس وبين المقاومة.
وإذا كانت كل هذه المحاذير ماثلة أمام الجميع فما هي الفائدة التي يمكن أن تجنيها «حماس» من هذه الإعدامات الميدانية؟ الحقيقة أنه لا يوجد أي فائدة، وهي ممارسات ضارّة، ومسيئة، ولا تخدم وحدة المجتمع، ولا تقدّم في البعد السياسي والاجتماعي سوى نموذج سلبي عن دقة وحساسية الأوضاع، وكيفية التعامل الوطني المسؤول معها.
والمطلوب، وعلى الفور أن تتوقّف هذه الممارسات، وأن يتم التحقيق الرسمي الجدّي بشأن ملابسات وتحديد المسؤوليات بشجاعة وموضوعية مع كافة من أمروا بها وأشرفوا على تنفيذها، أو من أستغلوا حالة الفلتان التي يمكن أن تكون عليه الأوضاع بعد سنتين كاملتين من الهجمات الاحتلالية للقيام بهذه الإعدامات التي تعكس الجانب المقابل من حالة الفلتان، مقدمة خدمة لا تقدر بثمن لتصوير هذه العصابات الإجرامية وكأنها مجرّد «ضحيّة» من ضحايا هذه الإعدامات.
وأظنّ أن «حماس» مطالبة بإجراء تحقيق جادّ ورسمي يسبقه اعتذار علني، لأن الشكل الذي بدت عليه هذه الإعدامات هو شكل استفزازي مرفوض بكل المقاييس مهما كانت الأسباب والمبرّرات، ومهما كانت الظروف والحساسيات.
وعلى «حماس» أن تعي بأن قطاعات واسعة من الناس حتى وإن كانت من الناحية العاطفية ناقمة على هذه العصابات، إلّا أنّ جزءاً كبيراً من هذه القطاعات، ومن موقع حرصها على المجتمع، وحرصها على السلم الأهلي لا ترى بهذا الشكل من الإعدامات سوى حالة انفعال وفلتان لا تنتمي إلّا لذهنية قمعية وانتقامية وفئوية عصبوية نحن بأمسّ الحاجة لنبذها ولجمها والتخلُّص منها، وتنحيتها كلّياً من كل قواميس العلاقات السياسية والاجتماعية والثقافية المفترضة في العلاقات الوطنية، وفي المجتمع الفلسطيني.
فإذا كانت «حماس» قد أقدمت على هذه الإعدامات بقرار منها فلتتحمّل مسؤولية ذلك، وإذا كانت قد تمّت من دون قرار منها فعليها أن تسارع فوراً إلى تقديم كل من أقدم عليها للعدالة، حتى وإن كانت المحاكم معطّلة، وحتى لو أن مقرّات الشرطة مدمّرة، فهذا لا يعفيها من المسؤولية، بل إن هذا الأمر بالذات يزيد من مسؤوليتها.
لا أحد يصدق أن الحركة التي احتفظت بالأسرى الإسرائيليين لعامين كاملين في الأنفاق دون أن تتمكّن كل استخبارات العالم من الوصول إليهم عاجزة عن الاحتفاظ بهذه العصابات إلى أن تتوفّر ظروف أفضل لمحاكمات لاحقة.
وبهذا ولهذا فإن حديث «حماس» عن التصدّي للفلتان الأمني هو حديث صحيح بقدر ما يتعلّق الأمر بالضبط الأمني المطلوب في هذه المرحلة، إلّا أن الإعدامات الميدانية ليست هي الحل، وليست سوى الوجه الآخر من الفلتان الأمني الذي تتحدث عنه الحركة.
على «حماس» أن تتداول هذا الأمر الخطير والحسّاس إلى أبعد حدود الحساسية بالسرعة القصوى، لأن إبقاء الشارع الفلسطيني في حالة قلق وترقُّب من زاوية هذا الشأن بالذات يعتبر بكل المقاييس من «الكبائر» السياسية في هذه الظروف الصعبة.
والسؤال الذي يُطرح الآن: لماذا تعطي «حماس» الذرائع لكي توحّد كل من يتربّص بها، وبالمقاومة وحتى بكل المشروع الوطني؟ وهل نسيت الحركة أن المشروع المعادي يهدف إلى تفتيت المجتمع الفلسطيني في القطاع لكي يحقّق هذا المشروع أهدافه بوسائل عجز عنها من خلال عامين كاملين من حرب الحلف المعادي كلّه على شعبنا؟ أين الحكمة، وأين المسؤولية من هذا كلّه؟
إذا لم يُمسك شعبنا بالحلقة المركزية والحاسمة في صراعه مع مشروع فصل القطاع عن الضفة الغربية، وتدمير مشروعنا الوطني عَبر هذا الفصل بالذات، وعَبر تحويل القطاع إلى منطقة منزوعة الهويّة، وبكيانية مكرّس انفصالها عن الكيان الوطني الواحد والموحَّد، ستتمكّن جبهة أعداء شعبنا، وستنجح بتحويله إلى معول هدم للمشروع الوطني بعد أن تحوّل في ضوء هذه الحرب إلى مركز ثقل خاص في إعادة انبعاث الحالة الوطنية، والمشروع الوطني، وبزخم كبير يمكنه أن يتجاوز كل مخطّطات الأعداء، وإجهاض محاولاتهم التي باتت مكشوفة. الانتباه يا «حماس»، ثم الانتباه، ثم الانتباه.