جيل ضائع وآخر في طريقه للضياع 

مابعد الحرب: آباء وأمهات عاجزون عن تربية أبنائهم والسيطرة على سلوكياتهم في غزة!

آباء وأمهات عاجزون عن تربية أبنائهم والسيطرة على سلوكياتهم في غزة!
حجم الخط

غزّة - خاص وكالة خبر - مارلين أبو عون

حُرم غالبية أطفال قطاع غزّة من التربية والتعليم وباتوا على الطرقات يتسولون للحصول على تكية طعام أو القليل من المياه الصالحة للشرب، فلا مكان يلهو فيه هنا وهناك ولا مكان للهدوء والفرح، حتى مع إعلان انتهاء الحرب ربما بشكلٍ مؤقت وربما إلى ما لا نهاية ولكنها بدأت في قلب وحياة كل كبير وصغير يعيش في هذه البقعة المدمرة.

الركام في كل مكان، الصواريخ الغير منفجرة تُهدد حياة المواطنين في كل لحظة، فالآباء يخافون على أطفالهم من المكوث بجانب الركام أو حتى اللعب في مخلفات الحرب، فيضطروا لحرمانهم من الركض مع أقرانهم واللعب معهم في شوارع غزة المدمرة.

عواملٌ كثيرةٌ منعت الصغار قبل الكبار من ممارسة حياتهم كغيرهم من أطفال العالم، منها الركض صباحاً ولكن هذه المرة ليس للرياضة وإنما للوقوف في طابور طويل من الناس الذين جاءوا من كل مكان من أجل الحصول على بعض من المياه الصالحة للشرب، وفي منتصف النهار يركضون مرةً أخرى للوقوف في طابورٍ آخر للحصول على بعضٍ من الطعامِ الذي لايكفيهم ولايكفي أُسَرِهم.

تفاصيل الحياة اليومية التي فرضتها عليهم الحرب قلبت كل شيء إلى الأسوأ، فهم لايعرفون شيئًا عن الفرح واللعب ومن جانب آخر حُرموا من التعليم فلا مراكز صالحة ولا مدارس يُمكن من خلالها أنّ يتلقوا تعليمهم الذي حُرموا منه لعامين متواصلين، حتى وإنّ توفرت هنا وهناك مبادرات من الجمعيات والمؤسسات الخيرية والدولية لاستقطاب عدد بسيط من الأطفال لتعليمهم قدر المستطاع على ما فاتهم من دروس في السنتين الماضيتين، وتبقى جميعها مبادرات لا يمكن لها أنّ تحل محل مدارس ومراكز وزارة التربية والتعليم ومراكز الأونروا التي خرَّجت مئات الآلاف من الأطفال على مدار سنوات عديدة.

يتبقى الجزء الأهم وهو التربية، فقد تعب الآباء من الحال الذي وصل إليه أبناءهم الذين اجتهدوا في تربيتهم، لكِن كل ما تعبوا من أجله ذهب مع الرياح، ولم تنفع سنين التربية معهم في شيء، فوجود أبنائهم في بيئة مع أناس لا يعرفونهم ولا يعرفون كيف نشأوا وعلى ماذا تربوا، ساهمت في انحراف الأطفال عن البيئة التي نشأوا بها.

وقد أصبح الأطفال يقلدون مايسمعونه وما يقوله الآخرون ويتصرفون بشكلٍ غريب ومختلف عن الطريقة التي نشأوا عليها والتي في معظمها ليست سليمة أو جيدة، فهذا يسب وهذا يضرب والآخر يتفوه بكلمات خارجة عن الأدب والمألوف وذاك يدمر خيام الجيران ويعتدي عليها، وآخر يسرق، وغيرها من الأفعال التي لا تُرضي مجتمعاً ولا ديناً ولا أعرافًا.

يبقى أنّ نُشير إلى أنَّ السواد الأعظم من الأطفال الذين كُتب لهم النجاة من هذه الحرب لم ينجوا من إرهاصاتها ونتائجها المدمرة، فنسوا ماتربوا عليه، أما العدد البسيط منهم فقد نجا من الحرب ونجا مرة أخرى من نتائجها فقد حالفهم الحظ إما أنّ يسافروا خارج غزّة وينجو بكل شيء تربوا عليه، وإما استطاع آباءهم إبعادهم عن البيئة المحيطة بهم، وعن حياة الخيام الصعبة وعاشوا في شقق مغلقة وبعيدة نوعاً ما عن الزحام والضوضاء والكلام الغير لائق الذي يمكن أنّ يسمعوه والتصرفات المشينة التي يمكنهم أنّ يُقلدوها.

سوسن وهي أم لثلاثة أطفال، تعمل مُعلمة في مدارس تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا"، كانت حياتها مليئة بالاستقرار والانضباط، وتحولت إلى كابوس كبير منذ السابع من أكتوبر عام 2023، حيث تقول: "كانت حياتي وحياة أطفالي طبيعية جداً، يسودها الاحترام المتبادل بين بعضنا البعض، أولادي خلال الساعات الأولى من النهار كل واحد منهم في مدرسته يتلقى تعليمه، أما أنا فأكون بعملي أُدرس أجيالاً من الطلبة والطالبات في المرحلة الإبتدائية وأضع أرجلهم على الطريق الصحيح لتنشأتهم تنشأة صحيحة، بعد الدوام نعود للمنزل ونمارس حياتنا الطبيعية من مراجعة الدروس، وتحضير الطعام سوياً، مشاهدة التلفاز، والخروج في الإجازات للترفيه عن أنفسنا، وزيارة الأهل والأصدقاء، باختصار كان لدينا حياة، إلى أنّ جاء يوم السبت في السابع من أكتوبر قبل نحو عامين، وقتها لم نذهب للمدارس ولم نمارس حياتنا ولم نبقى في بيوتنا".

وتُواصل في حديثها لمراسلة "خبر": "تعبنا بحق طيلة العامين الماضيين وخصوصاً أنّ الضغط زاد كثيراً في الأوقات التي أُضطَرُ فيها أنّ أترك أطفالي لوحدهم في الخيمة وأتوجه للمراكز التي تطلب منا الوكالة الدوام فيها، فأظل لساعات طويلة بعيدة عنهم، ولا أدري ماذا فعلوا أو مَنْ قابلوا، حتى أنَّ نسبة التشتت وعدم التركيز في عملي زادت لكثرة التفكير في أولادي، كيف يقضون وقتهم ومع مَنْ يلعبون".

وتُتابع: "لاحظت في الآونة الأخيرة أنّ نسبة العناد وعدم سماع أوامري قد زادت بل تفاجأت أنّ الأخوة يضربون بعضهم البعض وكثيراً جداً، لكنني لم أُعر الموضوع أيّ أهمية كوني أعلم جيداً انعكاسات الظروف التي مررنا بها والضغط النفسي الذي تولد عند جميع الأطفال والكبار أيضاً، لكِن الأمر زاد عن حده لدرجة سب الذات الإلهية والتلفظ بألفاظ نابية ووقحة جداً، هنا لم أصمت على الوضع الجديد عاقبت أطفالي في الوقت الذي يحتاجون فيه لعقاب، وجلست معهم لأُعلمهم الخطأ من الصواب، ومنعتهم من التواصل مع أطفال المخيم الذي نزحنا إليه، وها أنا أحاول قدر المستطاع أنّ أعيد أطفالي إلى تربيتهم القديمة وسلوكهم السوي وأتمنى أنّ أستطيع، مع أنّه صعب جداً طالما استمر الوضع القائم".

كيف نمنعه ونحن نعيش بالشارع؟

إسلام صقر، هي الأخرى لديها طفل يبلغ من العمر 14 عاماً، وحيدها الذي منحها إياه الله بعد رحلة علاج طويلة تكللت بالنجاح، تراه ولاترى شيئا قبله ولا بعده، تقول: "وحيدي أمير، هو الأمير الذي أراه أميراً على كل البشر، أحبه وأخاف عليه كثيراً، وكم تعذبت طيلة سنتي الحرب حين يتسلل إلى عقلي فكرة أنّ أفقده، فأجن وأستشيط غضباً وأدعي الله أن يحميه دائماً وأبداً، نزحنا لأماكن كثيرة وعدنا على ركام منزلنا مرتين أنا وهو ووالده برفقة أعمامه وعماتهم وأولادهم".

وأردفت: "بصراحة على قدر ماكنت أخاف عليه وعلى قدر ما كنت أبعده عن كل الأطفال من جيله كي لا يتطبع ولا يسمع أيّ كلمات بذيئة ويكررها، إلا أنّ محاولاتي باءت بالفشل، فأنا لم أستطع أنّ أمنعه من اللعب مع أولاد أعمامه وعماته وبنفس الوقت كنت غير راضية عن الاحتكاك المستمر معهم، حاولت أنّ أستقل في مكان بعيد عنهم لكي أستطيع أنشئ ابني وأربيه تربية صحيحة إلا أنّ الظروف حالت دون ذلك، وأنتي تعرفي كل عائلة تربي أطفالها كما يحلو لها، ولا نستطيع أنّ نتحكم في تربية أولاد الآخرين ونقول لهم ما يصح عمله ولا يصح، الحُكم فقط على أبنائنا نحن فقط، لذلك كانت مهمة إبعاد أمير عن أقربائه صعبة، فتطبع متل أطباعهم وأصبح يتلفظ بألفاظ سيئة جداً، وأحياناً يستوعب حديثي معه وأحيان أخرى لا يلقي بالاً له".

صمتت إسلام للحظة، ثم واصلت حديثها قائلةً: "ابني في سن حرِجْ جداً ما بين المراهقة والطفولة، ورغم أنني حاولت إبعاده عن أقاربه الذين يمكن أنّ يدمروا تربيته الجيدة، إلا أننا لم نستطع تنفيذ هذا الأمر، وذلك لوجودنا في الخيام، فنحن صدقاً نعيش في الشارع، كيف لنا أنا ووالده أنّ نمنعه عن الناس ونقفل عليه بابًا ونربيه جيداً ونحن بالأساس نعيش بالشارع".

يُذكر أنَّ الاحتلال الاسرائيلي سيطر على 60% من مساحة قطاع غزة وأجبر المواطنين للنزوح لأماكن محدودة في وسط وجنوب القطاع يتركزون على الشريط الساحلي غرب قطاع غزّة، في مساحة جغرافية ضيقة وازدحام بل انفجار سكاني مريع، تتلاصق الخيام بعضها ببعض، حيث لا يفصل الخيمة عن الأخرى سوى قطعة من القماش، فتشعر أنّ جميع العائلات تعيش مع بعضها البعض، يكتسبون ويصدرون  أفعال وألفاظ وسلوكيات إما تكون سيئة أو حسنة وهذا ماجعل الأمهات والآباء  يجدون صعوبة في تربية أبنائهم تربية صحيحة بعيدة عن الغرباء.

مابعد الحرب: آباء وأمهات عاجزون عن تربية أبنائهم والسيطرة على سلوكياتهم في غزة!
مابعد الحرب: آباء وأمهات عاجزون عن تربية أبنائهم والسيطرة على سلوكياتهم في غزة!
مابعد الحرب: آباء وأمهات عاجزون عن تربية أبنائهم والسيطرة على سلوكياتهم في غزة!
مابعد الحرب: آباء وأمهات عاجزون عن تربية أبنائهم والسيطرة على سلوكياتهم في غزة!