بين "نعم" و"لا": القرار الأمريكي في مجلس الأمن يكشف المأزق الفلسطيني

تنزيل.jpg
حجم الخط

بقلم المستشار د. أحمد يوسف

جاء قرار مجلس الأمن الأخير بشأن غزة ليكشف عمق الانقسام الدولي، ويعرّي أكثر هشاشة الموقف الفلسطيني الداخلي. فبينما صوّت ثلاثة عشر عضوًا بـ"نعم"، اختارت روسيا والصين الامتناع؛ ذلك الامتناع الذي يشبه صيغة "لعم"... لا هو تأييد كامل ولا رفض قاطع، لكنه يعكس الحسابات الجيوسياسية الثقيلة التي تحكم مواقف القوى الكبرى.

أما فلسطينيًا، فقد بدا المشهد أكثر التباسًا. السلطة الفلسطينية سارعت إلى الترحيب، واعتبرت أنّ القرار يشكّل خطوة إيجابية على طريق وقف الحرب وفتح مسار سياسي جديد.
في المقابل، أعلنت حركة حماس رفضها للقرار، وبررت موقفها– كما صرح الناطق باسمها أسامة حمدان – بأن المقترح لا يضمن وقفًا شاملًا لإطلاق النار، ولا يضع جدولًا زمنيًا لإنهاء الاحتلال، ولا يقدم ضمانات تمنع إسرائيل من استئناف حرب الإبادة أو مواصلة تهجير السكان من غزة.
وكان المقترح الأمريكي– الذي استند إليه القرار– قد تضمّن حزمة من البنود اعتبرتها واشنطن «خريطة طريق» لما بعد الحرب. أبرزها: وقف متدرج لإطلاق النار يبدأ بتهدئة إنسانية، انسحاب مرحلي للقوات الإسرائيلية من المناطق المأهولة، إطلاق سراح الأسرى والمعتقلين وفق ترتيبات متبادلة، عودة منظمة للنازحين إلى شمال القطاع تحت إشراف دولي، رفع جزئي للحصار وتسهيل إدخال المساعدات وإعادة الإعمار، إضافة إلى تهيئة مرحلة سياسية تعيد توحيد إدارة الضفة وغزة ضمن إطار «سلطة فلسطينية مُعاد إصلاحها». غير أن هذه البنود– رغم وضوحها النسبي– بقيت مساحةً مفتوحة للتأويل الإسرائيلي، الأمر الذي يثير مخاوف حماس وقطاعات واسعة من الفلسطينيين.
ومع ذلك، سيأخذ القرار طريقه للتنفيذ "بعجره وبجره"، سواء اتفقت معه حماس أو رفضته؛ فمعادلة القوة على الأرض– لا المواقف– هي التي ستحدد اتجاهاته ومآلاته. وهنا يبرز السؤال: هل تملك حماس اليوم أدوات فعلية لتعطيل قرار دولي؟ وهل تملك السلطة القدرة على إلزام إسرائيل بأي من بنوده؟
لكن الأسئلة الأكثر إلحاحًا تأتي من الخيام لا من مكاتب الفصائل. فالنازحون، الذين يعيشون على حافة الجوع والبرد والخوف، يتساءلون: أين تكمن تحفظات حماس تحديدًا؟ وهل الرفض يخفف شيئًا من معاناتهم؟ وهل القبول وحده قادر على حمايتهم من جولة جديدة من القصف؟ النازحون يريدون شيئًا واحدًا: ضمانات توقف النار، وتمنع إسرائيل من معاودة الحرب، وتضمن لهم العودة إلى بيوتهم. هذا هو جوهر مطلب الناس الذين يعيشون في العراء، بعيدًا عن تعقيدات النقاشات السياسية التي لا تغيّر من واقعهم شيئًا.
والواقع أن الرفض الفلسطيني– حين يأتي مشتتًا ومتعارضًا بين فصيل وآخر– يتحول عمليًا إلى هدية مجانية لإسرائيل. فكلما ظهر الفلسطينيون منقسمين، استطاعت إسرائيل أن تهرب من أي ضغوط دولية، وأن تدّعي بأنها لا تجد «شريكًا موحدًا» يمكن التفاوض معه. إن تشرذم الموقف الفلسطيني لا يضعف قوة التفاوض فحسب، بل يضع الفلسطينيين في دائرة الاتهام بالعجز السياسي، ويمنح إسرائيل مساحة واسعة للمناورة وإعادة إنتاج سياساتها دون مساءلة.
وتتعقد الصورة أكثر حين نأخذ في الاعتبار أن حركة حماس فقدت خلال الحرب كثيرًا من أوراق قوتها السياسية، وتعرضت بنيتها العسكرية لضربات قاسية، في وقت يواجه فيه حلفاؤها الإقليميون– من إيران إلى حزب الله– ضغوطًا متزايدة. هذا التراجع يجعل خيارات الحركة ضيقة، ويحوّل كلمة "لا" إلى موقف رمزي أكثر من كونه ورقة تأثير. في المقابل، تتحرك السلطة ضمن هامش سياسي محدود لكنه يحظى بقبول دولي يجعلها الطرف الأكثر قدرة على الاستثمار في القرارات الأممية.
ورغم هذا التباين، فإن كلمة "لا" وحدها لا توقف الحرب، وكلمة "نعم" وحدها لا تصنع تسوية. المطلوب– قبل أي شيء– هو اتفاق فلسطيني داخلي على رؤية واحدة: إما "لا" موحدة تُفرض على العالم بثقل فلسطيني جامع، أو "نعم" موحدة تُدار بحكمة وبخطاب متناسق. أما استمرار توزيع المواقف فهو الذي يُبقي الفلسطينيين في دائرة التشتت، ويجعل قرارهم رهينة الانقسام.
إن التيه الفلسطيني اليوم ليس قدرًا محتومًا، لكنه نتيجة مباشرة لفقدان الرؤية المشتركة. وما لم تتوحد السلطة والفصائل على موقف واضح، سيظل المشهد محكومًا بالارتباك ذاته: "تيتي تيتي… لا رحتي ولا جيتي". فإما أن يخرج الفلسطينيون برؤية موحدة تعيد لهم مكانتهم، أو سيبقون أسرى هذا التناقض الذي يبدد ما تبقى من قوتهم الاستراتيجية أمام إسرائيل والعالم.