قبل ما سمي ثورات الربيع العربي بمدة طويلة، كانت الحركات الإسلامية تحثُّ الخطى نحو تحولها إلى أحزاب وطنية محلية؛ مبتعدةً بذلك ولو قليلا عن خطابها التقليدي، دون أن تتخلى عن شعاراتها الأممية والعقائدية، ومع مرور الوقت أخذت الفجوة تتسع بين تلك الشعارات وبين الممارسات الفعلية؛ فمهما كانت صياغاتها النظرية بليغة ومحكمة، وسواء كانت تلك الأحزاب في المعارضة أم في الحكم، فإنها ستُصدم مع الحقائق المادية على أرض الواقع (الجماهير واحتياجاتها، السياسة الدولية ومقتضياتها، الحكم ومتطلباته ..إلخ)، وستجد نفسها مضطرة للتعامل معها بمنطلقات وأدوات مادية واقعية.
جماعة الإخوان المسلمين في الأردن مثلاً تحولت إلى «جبهة العمل الإسلامي»، وصارت تمارس السياسة كأي حزب أردني آخر.
في فلسطين ن
مت الفكرة الوطنية والاعتراف بالخصوصية الفلسطينية لدى الإخوان المسلمين تدريجيا، وتُرجمت بتأسيس «حماس»، في لبنان كان واضحا أن «حزب الله» ظل منشغلا في القضايا الداخلية وفي أدق تفصيلاتها، حتى أن مبرر حمله للسلاح - كما كان يصرح - هو تحرير «مزارع شبعا» اللبنانية.
بعد الربيع العربي، وبعد أن وُضِعت على المحك، قدمت الحركات الإسلامية التي فازت في الانتخابات، أولى التنازلات بتعهدها احترام الاتفاقيات الدولية، وبشكل خاص اتفاقيات كامب ديفيد، ثم بعثت برسائل تطمين للغرب تؤكد سعيها لبناء دولة القانون، وترسيخ المجتمع المدني، وتمسكها بالديمقراطية، وبالشرعية الدولية، بصرف النظر عن مدى صدقية نواياها.
الكاتب «عبد القادر أنيس»، أشار في مقالته على «الحوار المتمدن» إلى أن هذه الأحزاب وعلى ما يبدو أيقنت أن المواجهة مع الغرب لن تكون أيديولوجية، أو بلاغية، بل ستكون سياسية، اقتصادية ودبلوماسية، وأنَّ بعضها اختار المصالحة مع الغرب بدلا من التصادم معه، كما حصل في مصر وتونس، وكما صرحت جماعة الإخوان المسلمين في سورية، حين تعهدت بالمشاركة في دولة مدنية ديمقراطية بعد الإطاحة بالنظام، وأنها لا تنوي تأسيس دولة إسلامية.
على المستوى الداخلي، أشار أنيس إلى أن هذه الأحزاب أدركت أنها لن تكون إزاء جدل فقهي نظري، يخضع لمبدأ الحجية ويعتمد على فصاحة اللغة، بل إزاء الواقعي والحيوي والمتحرك، والذي لا يرحم. وأن الاهتمام لا بد أن ينصب على مسائل محلية مثل البطالة، ظروف المعيشة للمواطنين، نسب التضخم، أرقام التنمية البشرية، جلب الاستثمارات الأجنبية، حتى لو كانت متيقنة من عجز برامجها وشعاراتها على مواجهة هذا الواقع؛ إلا أنها لا تجد مناصا من طمأنه شعوبها ببعض الشعارات «العصرية».
باستثناء بعض القيادات التقليدية التي لم تستوعب الدرس جيدا، وما زالت توزع الفتاوى بكل الاتجاهات، كما لو أنها خارج العصر، سنجد أن معظم أحزاب الإسلام السياسي العربية أرادت أن تستلهم تجربة حزب العدالة والتنمية التركي بزعامة أردوغان؛ خاصة بعد النجاح الواضح الذي حققه في بلده؛ في مصر، أطلق الإخوان المسلمون على حزبهم اسم حزب العدالة والحرية، في المغرب حزب العدالة والتنمية، وفي ليبيا حزب التنمية والإصلاح، كما لو أن غياب كلمة «إسلامي» من تسمية الأحزاب واستبدالها بمصطلحات عصرية مثل التنمية والعدالة، ليس مجرد صدفة بحتة، بل هو من ضرورات العصر، وتعبير عن رغبة في تغيير الواجهة، ودليل على تراجع الأيديولوجي النظري لصالح الوطني العملي.
بعض هذه الأحزاب غيرت تحالفاتها وخطابها متناسيةً فتاواها وتصريحاتها السابقة بشأنها، ولعل تحالف «حماس» مع النظام السوري، قبل الأزمة السورية وفي بداياتها، هو ترجمة لهذه التحولات، حيث لم يمنع خلاف النظام البعثي مع الإخوان المسلمين في سورية، ووجود قانون يقضي بإعدام أي عضو من الإخوان استمرار هذا التحالف، وأيضا تصريح خالد مشعل بأنه يقبل بدولة فلسطينية على أراضي 67، وهذا بحد ذاته شكل من العلمانية السياسية، والبرغماتية الوطنية. وأيضا ما حصل في العراق، بعد سقوط نظام «صدام حسين»، حيث انخرط الإخوان المسلمون في النظام الجديد (طارق الهاشمي كان نائبا للرئيس)، تماما كما فعلت الأحزاب الإسلامية «الشيعية»، التي هيمنت على النظام.
في دراسة لي، نُشرت في كتاب «منصات الميديا الجديدة والعنف المقدس» (مركز المسبار)، تابعتُ عشر صفحات للإخوان المسلمين على موقع «فيسبوك»، تصدرها الجماعة في أكثر من بلد عربي، تبين لي أن القضية المركزية لجميع المواقع الإخوانية كانت اعتقال الرئيس السابق «مرسي»، وعدا ذلك، كان ينصبُّ تركيز كل موقع بدرجة كبيرة على القضايا المحلية لذلك البلد، لدرجة أني لاحظت غياب القضايا الكلية التي تخص برنامج الإخوان العالمي، بما في ذلك القضية الفلسطينية.
ربما يكون اهتمام أي حزب إسلامي بالشؤون الداخلية للقُطر الذي يقيم فيه مسألة طبيعية ومشروعة، بل وحتمية، وهذا يكشف وهن وزيف الشعارات الأيديولوجية التي يرفعها ذلك الحزب، خاصة حين يتشابه طرحه مع الأحزاب الأخرى (العلمانية أو القومية وغيرها) في معالجة القضايا اليومية وهموم البلد، أو حين يكون جوهر ومضمون برنامجه سياسيا وبرغماتيا وواقعيا لا يختلف عن غيره، وكل ما في الأمر أنه أضاف كلمة إسلامي، أو أنه خلط الشؤون الدينية بالسياسية.
ومن الجدير بالذكر، أن بعض الأحزاب الإسلامية (مثل حزب التحرير) ما زال يرفض الاعتراف بأية خصوصية وطنية، أو بأية حدود سياسية، وهذا موضوع آخر.
وهذه التحولات حملت معها أيضا معاني سياسية، لها علاقة بخدمة بعض هذه الأحزاب لتوجهات خارجية، ولتنفيذ مشاريع أكبر وأخطر، وبترتيب الخارطة السياسية للإقليم لصالح قوى خارجية.
ولتبديد الالتباس، وإزالة التناقض الظاهر بين البعد «الدولي العالمي» لمشروع الإسلام السياسي العابر للقارات والحدود، وبين البعد «الوطني المحلي» للجماعات الإسلامية الساعية للسلطة، لا بد من التأكيد على أن الانخراط في الهم الوطني لأي حزب إسلامي لا يعني تخليه عن تحالفاته مع غيره من الأحزاب لتحقيق المشروع العالمي الذي يصنّف العالم إلى فسطاطين (فسطاط الحق وفسطاط الباطل)، على الأقل على المستوى النظري، وهذا يكشف عن وهن هذا الطرح وتهافته أمام حقائق العصر، ويؤكد أن من يتحمل تبعات هذا المشروع (العالمي) ومن يدفع أثمانه هم الشعوب المغلوبة على أمرها، والأحزاب الإسلامية الصغيرة، والقيادات المغامرة، الذين تم تضليلهم من قبل من هم أعلى منهم شأنا ومرتبة.
أي أولئك الذين لا يتورعون عن توريط غيرهم في حروب صغيرة – لكنها مدمرة - لا مصلحة لهم فيها.