قرارات «المركزي» ذهبت مع الريح

20151229133700
حجم الخط

مضى عام كامل على اتخاذ قرارات المجلس المركزي التي وُضِعت للدراسة كطريقة للتحايل على تطبيقها، بدليل أنّ البيان الصادر عن اللجنة التنفيذية في اجتماعها الأخير احتوى عبارة يتيمة نصّها «وناقشت خطوات وآليات تنفيذ قرار المجلس المركزي الخاص بتحديد العلاقة مع سلطة الاحتلال». ولم يقل لنا البيان ماذا حصل خلال عام كامل؟ في العادة وكما هو معروف في العالم كله وعلى مدار التاريخ، أنّ القيادات والمؤسسات والدول والحكومات تدرس الأمر قبل اتخاذ القرار بشأنه، لأن القرار إذا صدر يجب تنفيذه لا أن يبقى تحت الدراسة والبحث في خطوات وآليات تنفيذه لمدة عام.

السؤال المطروح: لماذا أبقت اللجنة التنفيذية هذا القرار بعد صدوره قيد الدراسة حتى إشعار آخر؟ ما يفسر ذلك أن القرار لم يجد القبول عند الأوساط المقرِرة في اللجنة التنفيذية، ولكنها لم تحاول منع صدوره خشية من المزايدات، ولأنها تصورت إمكانية توظيفه لتحسين شروط العلاقة مع الاحتلال، وليس كما جاء فيه حول إعادة النظر في العلاقة لتصبح علاقة مع احتلال وليس مع شريك سلام، فهي وجدت أن القرار يجعلها تحمل حجرًا كبيرًا لا تستطيع أن تضرب به، ولكنها علقت بوضع إذا رمته على الأرض دون إلقائه على العدو ستخسر، لأن الشعب (والعديد من القوى) سيراها متخاذلة، وإذا ألقته نحو هدفه ستخسر أيضًا لأنه كما يقول المثل «اللي بكبر حجره ما بصيب».

في ضوء ذلك، أرسلت القيادة الفلسطينية وفدًا أمنيًا للقاء وفد أمني إسرائيلي، لأن نتنياهو رفض استقبال الوفد. وأبلغ الوفد الفلسطيني نظيره الإسرائيلي حسب الرواية الرسمية بقرارات المجلس المركزي، وفي رواية أخرى هي الأكثر مصداقية أبلغه «بأن السلطة تقوم ما بوسعها لمنع المواجهات والعمليات العسكرية، بما فيها السكاكين والدهس»، و»طالب بضرورة وقف الاقتحامات للمدن والبلدات الفلسطينية، ووقف الإعدامات الميدانية والعقوبات الجماعية والإجراءات الاستفزازية على الحواجز، ورفع الحجز عن 3 - 4 مليارات شيكل، وضرورة موافقة إسرائيل على إصدار جواز فلسطيني باسم فلسطين دون استخدام دولة فلسطين، واعتبار قطاع غزة جزءًا من الولاية الفلسطينية، وعدم التفاوض مع أية جهة بخصوص القطاع إلا عبر السلطة الفلسطينية».

وبعد عودة الوفد الإسرائيلي إلى المستوى السياسي أبلغ نظيره الفلسطيني بأن إسرائيل لا تعترف إلا بوجود 490 مليون شيكل كأموال للسلطة، أمّا ما يخص الاقتحامات فقدم اقتراحًا بأن يتم البدء بوقف الاقتحامات لرام الله وأريحا، وفي ضوء ما سيحدث يجري التقييم والتعميم لمدن أخرى.

وفي ذات السياق، أبلغ الرئيس محمود عباس اللجنة التنفيذية بأن اللجنة المركزية لحركة فتح صوتت بالإجماع على قرار سيحمله الوفد في اللقاء القادم مع الجانب الإسرائيلي، يقضي بموافقة الجانب الفلسطيني على استمرار التنسيق الأمني مقابل تعهد الطرف الإسرائيلي بوقف الاقتحامات لمناطق (أ)، ثم عرض الرئيس الأمر للتصويت في اللجنة التنفيذية على أن تمنح إسرائيل مدة شهر للموافقة على ذلك، ونال أغلبية الأصوات بالرغم من أنه يناقض قرارات المجلس المركزي بوقف التنسيق الأمني بشكل كامل كخطوة لفك الارتباط كليًا بالاحتلال، وهذا سيجعل من المرجح أن يصبح الشهر شهورًا، ويدلّ على الهبوط بسقف قرارات المجلس المركزي وبشكل يهبط حتى عن سقف «اتفاق أوسلو» الذي نصّ على منع قوات الاحتلال من الدخول إلى مناطق (أ) إلا في حالة استثنائية «المطاردة الساخنة»، ما لم يعد موجودًا منذ العام 2002 عندما استباحت القوات الإسرائيلية الأراضي الفلسطينية دون تمييز.

إنّ السّلطة جرّاء وضعها الراهن لن تطبق قرارات المجلس المركزي، لأنّها اتُخذت تحت ضغط الأوضاع وما تعتبره مزايدات وليس نتيجة قناعة، فهي تنطلق من فلسفة أن «التنسيق الأمني مقدّس»، سواء أكانت هناك عملية سياسية أم لم تكن، لأنه يَصُبّ في مصلحة بقائها، وبقاؤها بات هو الغاية بعد تجاوز إسرائيل لأوسلو ولأية عملية سياسية.

وكما صرح موشيه يعلون، وزير الحرب الإسرائيلي، مؤخرًا: «إن السلطة عبر التنسيق الأمني تساهم بنسبة 20% في منع وقوع العمليات ضد إسرائيل، بينما تساهم إسرائيل بنسبة 80%، وإذا أوقفت السلطة التنسيق الأمني فإنها ستندثر، لأن إسرائيل لن تساعدها في هذه الحالة، وهذا سيمكّن «حماس» من الاستيلاء على السلطة أو على قيادة الفلسطينيين من دون سلطة».

وهناك أسباب أخرى تفسّر عدم إقدام السلطة على تحديد العلاقة مع الاحتلال، منها: الخشية من الانهيار والفوضى والفلتان الأمني، خصوصًا إذا كانت هناك ردة فعل إسرائيلية قوية على تنفيذ القرارات؛ والمراهنة على استئناف عملية «السلام»؛ والخشية من العقوبات الإسرائيلية والأميركية المُحتملة، ومن غضب أطراف عربية، خصوصًا التي تعتبر نفسها الآن في مرحلة التقاء مع إسرائيل ضد «الخطر الإيراني»؛ ووجود بنية كاملة، اقتصادية أمنية سياسية، أوجدت جماعات داخل السلطة وخارجها من مصلحتها بقاء الوضع الراهن تحت سقف «اتفاق أوسلو»، إضافة إلى استمرار الانقسام الفلسطيني الذي يحول دون القدرة على بناء وتبني بدائل أخرى، خصوصًا أن منظمة التحرير لا تقدّم البديل، كونها ضعيفة ومهمشة ومؤسساتها مشلولة، ولأن جلّ قياداتها ودوائرها تحت الاحتلال تمامًا مثلما هي السلطة الآن، ما يفقدها القدرة على المناورة ومرونة الانتقال من خيار إلى آخر، أو الجمع بين عدة خيارات. لا بدّ من وقف التنسيق الأمني ومجمل الالتزامات المترتبة على «اتفاق أوسلو» الذي أوصلنا إلى الكارثة التي نعيشها، وإذا لم يكن ذلك ممكنًا مرة واحدة فيمكن أن يحدث بشكل تدريجي، فهناك إمكانية لاتخاذ خطوات فورية أخرى أقل من تغيير العلاقة جذريًا مع إسرائيل، مثل تخفيف التنسيق الأمني والتبعية الاقتصادية من خلال تعزيز عوامل ومقومات الصمود والتواجد البشري على أرض الوطن وصولاً إلى تجميدها وإلغائها، إضافة إلى وقف الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل أو ربطه، على الأقل، باعترافها بالدولة الفلسطينية. يجب أن تستند العلاقة إلى مبدأ «الندية والتبادلية»، ففي حال استمرت إسرائيل في تجاوز التزاماتها واقتحام المدن والقرى والمخيمات - كما تفعل باستمرار - توقف السلطة التنسيق أو تبادل المعلومات، وتعطي ضوءًا أخضر لأفراد الأجهزة الأمنية للتصدي للمستوطنين وقوات الاحتلال، خصوصًا التي من المفترض أنها وفق أوسلو تحت السيطرة الفلسطينية الكاملة، ويمكن دعم «لجان الحراسة» التي تقوم بالتصدي لاعتداءات المستوطنين في مختلف المناطق، خصوصًا مناطق (ب) و(ج)، ويمكن حصر العلاقات التي تشمل التنسيق الأمني والمدني (الذي لا مفرّ منه لتسيير حياة الناس) بالمستوى السياسي، وعدم لعب القادة الأمنيين دورًا سياسيًا في أمر العلاقة مع إسرائيل. كما يمكن تبديل وتغيير موازنة السلطة، بحيث يكون نصيب الأمن أقل، إذ تراوحت نسبته في موازنات السلطة ما بين 28 - 36%، عبر إلغاء جهاز أمني وتحويل أفراده إلى قطاعات مدنية، ونقل المهمات السياسية من السلطة إلى المنظّمة. حتى يكون كل ما تقدّم مثمرًا لا بدّ أن يكون جزءًا من رؤية جديدة تنهي كل الأوهام عن إمكانية إحياء أو استئناف ما سميت زورًا وبهتانًا «عملية سلام»، مع إدراك أنّه من دون تغيير موازين القوى تغييرًا جوهريًا ليصبح الاحتلال مكلفا لإسرائيل وليس مربحًا لها، كما هي الحال الآن، لا يمكن دحر الاحتلال، وتجسيد الاستقلال الوطني، وممارسة سيادة الدولة الفلسطينية، سواء من خلال المفاوضات أو من دونها.

فالمفاوضات شكل من أشكال إدارة الصراع بوسائل سلمية، ولكنها ترتهن للواقع الماثل على الأرض، ولا يمكن أن تكون مثمرة إذا لم تستند إلى عناصر وأوراق القوة والضغط، وإذا لم تكن أو تصبح إسرائيل مستعدة لقبول تسوية تحقق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية أو مرغمة على قبولها، لأن رفضها سيجعل إسرائيل تواجه وضعًا أسوأ. من وصلت خياراته العقيمة إلى طريق مسدود، ومن تتآكل أرضه وحقوقه، وتفقد بنيته ومؤسساته الشرعية الانتخابية والوطنية وتتكرس وتتقادم، وتزداد الهوة بينه وبين شعبه؛ عليه أن يبني خيارات جديدة، فهي لا تهبط عليه من السماء وإنما تبنى، وإذا لم يكن ذلك متاحًا مرة واحدة فيمكن أن يحدث ذلك خطوة خطوة ضمن عملية تدرجية معروف هدفها النهائي منذ البداية، على أن تحقق في كل مرحلة ما يمكن تحقيقه ليس باعتباره نهاية المطاف، وإنما كخطوة على طريق إنجاز الحرية والعودة والمساواة والاستقلال باعتبار ذلك حلا مرحليًا على طريق الحل التاريخي النهائي.