الهجمات المنظمة التي شنها تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام "داعش" على قوات الجيش والأمن التونسية في مدينة بن قردان الحدودية مع ليبيا والتي سقط فيها عشرة رجال أمن وستة وثلاثون ارهابياً- حسب المصادر الرسمية التونسية - تشير الى تغير واضح في وجهة "داعش" بعد تراجعها في سورية، على اثر الضربات القوية التي تلقتها وتتلقاها أساساً من سلاح الجو الروسي ومن قوات التحالف الدولية التي انضمت مؤخراً لحرب اكثر جدية ضد تنظيم الدولة.
فـ "داعش" في الآونة الأخيرة نقل جزءًا من مقاتليه وقادته الى ليبيا لجعلها مقراً لقيادته بعد تيقن التنظيم ان بقاءه في سورية لن يطول في ظل تصميم دولي على إنهاء وجوده في هذا البلد، خصوصاً وان كل الأطراف الدولية المتورطة في الحرب السورية باتت تسلم بتسوية للأزمة السورية بالتعاون مع نظام الرئيس بشار الأسد على الأقل لمرحلة انتقالية، ولم يعد شرط ذهاب الأسد قبل التسوية قائماً، على الرغم من تكرار طرحه من قبل بعض الدول العربية وقسم من المعارضة السورية. ولا شك ان اتفاق وقف إطلاق النار بين النظام والمعارضة، الذي يستثنى منه "داعش" و "جبهة النصرة"، هو بصراحة انتصار ضمني للنظام السوري، ومحاولة من قبل الغرب وبعض العرب للإبقاء على ما تبقى من المعارضة "المعتدلة" المدعومة من هذه الجهات بعد ان تلقت ضربات موجعة من الروس وقوات النظام.
الآن، الحرب ستنتقل الى ليبيا ودول الجوار في محاولة من "داعش" لتشتيت الأنظار والجهود عن الجبهة السورية ولكسب المزيد من الوقت لإعادة ترتيب أوضاعه من جديد. وما شهدته تونس هو مقدمة لمواجهات ربما تكون اكثر دموية تعبر عن تخطيط عالي المستوى وتنظيم فائق الدقة. ومن حسن حظ تونس ان السلطات كانت جاهزة ومستعدة، ما أدى الى تقليل الإصابات في أوساط قوات الأمن التونسية وسرعتها في القضاء على المجموعات الإرهابية المهاجمة. ولكن بطبيعة الحال هذه بداية مرحلة جديدة من الحرب والمواجهات مع "داعش" قد تقود الى اعادة احتلال ليبيا دولياً.
وفي ظل هذه الجلبة لا احد يركز على دور تركيا في كل الأحداث التي تجري في سورية والآن في دول شمال افريقيا العربية والتي تمتد من المغرب حتى مصر. وباستثناء الاتهامات الروسية لتركيا التي تثبت بالدليل القاطع تورط تركيا في دعم "داعش" بالسلاح والرجال وبالمال من خلال استيراد النفط منه، لا ذكر للدور التركي في المساهمة في تنقل قوات ورجال "داعش" من والى تركيا وصولاً الى ليبيا ومنها للدول العربية المجاورة.
منذ البداية كانت تركيا طرفاً مؤثراً وفاعلاً في الحرب داخل سورية، وبات واضحاً ان الأهداف التركية كانت تركز على استقطاع جزء من الاراضي السورية الواقعة شمال حلب والتي تتركز فيها أقلية تركمانية تحت مسمى منطقة أمنية عازلة، وعدا عن المطامع التركية في سورية سعت السلطات التركية لمنع تقدم الأكراد وسيطرتهم على أي مساحة ارض إضافية يمكن ان تعزز مطالبهم في إقامة منطقة حكم ذاتي تتواصل مع مناطق الأكراد في العراق وفي تركيا، حتى لا تتحول هذه المناطق التي قد تمتد من حدود ايران- العراق وحتى ساحل البحر المتوسط في سورية، وهذا يعني ضمناً تكون الدولة الكردية التي ستصبح منطقة تجمع الأكراد في تركيا وهي الأهم و الأكبر جزءًا من هذه الدولة، وهذا ما تحارب تركيا لمنعه.
من هنا تحاول تركيا دعم كل الاتجاهات الاسلامية المتطرفة من "داعش" وغيرها لمنع مثل هذا التطور، ولو تسنى لها السيطرة على جزء من الاراضي السورية وضمها اليها في اي حل لتقسيم سورية فهذا سيكون أقصى ما يمكن ان تطمح اليه. ولكن لا تأتي الرياح بما تشتهي السفن في كثير من الأحيان، وفعل التدخل الروسي فعله في تشويش الأحلام التركية، وحتى الولايات المتحدة والغرب وقفوا ضد تركيا في استهداف أكراد سورية الذين قاتلوا ببسالة ضد "داعش" وانتصروا عليه في المناطق القريبة من الحدود مع تركيا، وهذا ما اغضب تركيا التي صبت جام غضبها على الأكراد وتعمدت قصف مواقعهم وإطلاق التهديدات العلنية لهم ورفض سيطرتهم على بعض الأماكن ومطالبتهم بالانسحاب منها. ولم يستوعب العالم هذا الموقف التركي الذي يستهدف أكراد سورية ويحاول كذلك منع قطع طريق إمداد "داعش" من الحدود التركية.
لقد آن الأوان لأن تقوم الدول العربية المتضررة من السياسة التركية الغبية بوضع النقاط على الحروف فيما يتعلق بالدور التركي في دعم الاٍرهاب في الدول العربية بدءًا من مصر وليس انتهاءً بتونس. فعملية نقل مقاتلي "داعش" من تركيا الى ليبيا تمر من خلال تركيا التي تسمح بهذا الانتقال الآمن وتدعمه، وهي بهذا الدعم اللوجستي الذي يتعدى حرية الحركة تقف في الخندق المعادي لمصالح الدول العربية المتضررة من ارهاب " داعش".
والنموذج الذي تقدمه تركيا للتجارة بملف اللاجئين السوريين مع دول الاتحاد الأوروبي، حيث تبتزهم لتقديم الدعم لها لمنع تدفق اللاجئين الى أوروبا، يمثل أحد الشواهد على الانتهازية القصوى التي يمارسها نظام اردوغان الذي لا بد وان يدفع ثمن هذه السياسة في نهاية المطاف، فمن يلعب بالنار ستحرق أصابعه. والدول العربية التي تكتوي بنار التجارة التركية ينبغي ان تقف بحزم ضد سياسة العدوان هذه وتفعل ما في وسعها لثني تركيا اردوغان عن مواصلة هذه اللعبة.