وما زالت الأرض تكشف أسرارها

عبد الغني سلامة
حجم الخط

منذ اكتشاف النار، وحتى هبوط أول مركبة فضائية على سطح المريخ، والأرض ما زالت تُحدِّث أخبارها، وتُواصل كشف أسرارها. وطوال هذا الزمن الممتد، والإنسان قائد هذه المغامرة وبطلها.

كان غروره في كل حقبة يخيل له أنه وصل الذروة، لكن فضوله من جهة أخرى كان يفتح له في كل مرة آفاقا جديدة، ومختلفة، وغير متوقعة. في البدايات السحيقة الموغلة في القِدم كان الإنسان بلا مخالب ولا أنياب، وسرعته وقوته تعد الأضعف بين سائر الوحوش التي كانت تحيط به، فاخترع الصيد، ولما أدرك أن الصيد يتطلب تعاونا، اخترع الكلام. ولكن، هل كان يتوقع أن تلك الأصوات الغريبة التي كان يصدرها ستتطور إلى مئات اللغات، وستصبح شِعرا وأغنيات؟ هل كان يدرك أن مائدته التي كانت إما لحما نيئا أو مقددا أو مشويا، إلى جانب بعض الثمار المنتقاة بعشوائية ستضم بعد زمن قائمة من الأطعمة لها أول وليس لها آخر ؟ هل كان بإمكانه أن يتخيل البيتزا والمعكرونة والهمبرغر ؟ هل كان يتوقع وهو يضرب بفأسه الحجري حجرا آخر وينقش عليه أسماء الملوك والحروب، أنه سيضرب في يوم ما بأنامله الناعمة لوحا رقيقا اسمه الكيبورد ؟ وحتى عندما اخترع أول حاسوب، هل توقع بأن حجمه سيتقلص من حجم الغرفة إلى رقائق أصغر من حبة العدس؟ هل علم الإنسان وهو يصكُّ سبائك البرونز، أن هناك معدنا أصلب اسمه الحديد سيصهره سيوفا بعد قرون قليلة؟ وأن الطبيعة تخبئ له الألمنيوم والبلاستيك وألياف الكربون؟ وأن الخشب يصلح لأشياء كثيرة غير التدفئة؟ وأن الرمل ممكن أن يتحول إلى زجاج؟ وأن طاقة الشمس ستتحول إلى كهرباء؟ وحزمة الضوء تصبح إشعاع ليزر؟ وأن مضارب خيامه ستصبح مدنا ضخمة بيوتها تناطح السحاب؟ هل حلم "ابن فرناس" وهو يطير بجناحين بدائيين أن صاروخا سيحمل رجلاً اسمه "أرمسترونغ" ويحط به فوق سطح القمر ؟ وهل دار في خلد "ابن الهيثم" أن عدساته سيبُنى عليها عالم كامل اسمه السينما؟ وهل تنبأ "ابن الشاطر" أن اسطرلابه سيتحول إلى GPS ؟ وهل توقع "مندل" وهو يربي فاصوليته أنها تخبئ سراً عظيما اسمه DNA ؟ هل توقع "أديسون" أن مصباحه الصغير سيضيء كوكب الأرض بأكمله؟ هل توقع "موريس" وهو يصنع تلغرافه، لينقل الأخبار بين المدن، أن "هيرتس" سيكتشف من بعده أهم أسرار الطبيعة: الموجات الكهرومغناطيسية، التي ستحمل الكلام والصور والأخبار وتطوف بها أرجاء الأرض قبل أن يرتد إليك طرفك ؟ وهل خطر ببال "جراهام بيل" حين اخترع التلفون الأرضي، أنه سيأتي من يخلعه من شروشه، ويحوله إلى هاتف محمول بالصوت والصورة ؟ وهل أدرك "إينشتاين" حين قدم نظريته النسبية أنها ستتحول إلى قنبلة ذرية فتاكة؟ وهل تنبأ "جاليليو" وهو يصوب تلسكوبه نحو المشتري، معتقدا أنه آخر الكون، أن "هابل" سيفتح لنا نافذة تطل على مائة مليار مجرة ؟ هل توقع "التدمريون" أن ساعتهم الرملية ستصبح مجرد تحفة، ليحل محلها ساعات رقمية، وكاميرات رقمية، وحواسيب محمولة، وهواتف ذكية، وآي باد، وتابليت، وإكس بوكس؟ هل كنا نتوقع أن ليفا زجاجيا أرق من الشعرة بإمكانه أن يحمل مئات الآلاف من الرسائل والصور الرقمية ؟ كنا نستشعر بالهواء والنسيم العليل، ولكن هل كنا نتوقع أنه بإمكانه أن يحمل الأصوات والصور والأفلام والموجات والإشعاعات؟ كنا نرى ألواح الزجاج الشفافة، ونظن أنها لا تصلح إلا للشبابيك، فإذا بها تتحول إلى لوحات ذكية بقدرات خارقة ؟ حين كنا ننقل الرسائل مع الحمام الزاجل، هل كان بمقدورنا أن نتخيل شيئا اسمه الفيسبوك ؟ هل أدرك "توملينسون" حين اخترع الإيميل أنه سيقضي على ساعي البريد، وسينهي زمن الرسائل المعطرة ؟ هل كانت "كليوباترا" تحلم بمستحضرات "ماكس فاكتور" ؟ هل كان بمقدور "أبو سفيان" أن يتخيل اتفاقية "الجات"، ونقل الأموال عبر "الويسترن يونيون" ؟ هل كان بمقدور "صلاح الدين" أن يصدق أن سيوفه وقلاعه لن تصمد أمام كبسة زر يطلقها رعديد من غرفة مكيفة في الجهة المقابلة من الأرض؟ هل بإمكاننا حاليا أن نتخيل ماذا يمكن للهندسة الوراثية وتقنيات النانو ورقائق الكمبيوتر وثورة الاتصالات أن تفعل بنا بعد عشرين سنة، أو ألف عام ؟ ماذا يخفي عنا العلماء والمخترعون في "الناسا" و"ميكروسوفت" و"سامسونج" و"جوجل" و"سوني" ؟ والسؤال الاعتراضي: ماذا أعددنا نحن للمستقبل ؟!

رغم كل هذا التقدم، ما زال الإنسان يوظف العلم للربح، والاختراعات للتدمير. الحرب كانت أول شيء اخترعه الإنسان، وظلت هاجسه وكابوسه، فخاض ما لا حصر له من الحروب والمعارك، وجرب كل أنواع الأسلحة، ولكنه حتى هذه اللحظة لم يجرب السلام .. السلام الذي يعم ربوع الأرض كلها.

أيها العالم، إلى أين أنت ماضٍ بنا ؟ أيها العِلم، متى ستلقي مرساتك في مينائك الأخير؟ أيها المستقبل، ماذا تعد لنا من مفاجآت؟ أيها الإنسان، منى ستدرك أنك مجرد ومضة من تاريخ الكون الطويل؟ أيتها الأرض، يا أمنا الرؤوم، هل بقي في جعبتك الكثير من الأسرار؟ "وعلم الإنسان مالم يعلم". قرآن كريم