متطلبات ما بعد فوز الليكود

image-XOWNQXMF98LBU10D
حجم الخط
مكونات البرنامج الوطني الفلسطيني ثلاثة: العودة والدولة وتقرير المصير، بينما لا يشكل تحقيقها سوى "الحل الوسط": تطبيق قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالصراع. 
ولئن كان نحو 25 عاماً من التفاوض الثنائي المباشر قد أثبت أن إسرائيل النظام ليست في وارد هذا "الحل الوسط"، فإن نتائج الانتخابات الإسرائيلية، بمعزل عن تركيبة حكومة الاحتلال القادمة، قد نفت إلى غير رجعة إمكان أن يسفر هذا الشكل من التفاوض عن إقامة دولة فلسطينية على حدود 67، فما بالك بإمكان تحقيق العودة وتقرير المصير. لماذا؟
يؤكد فوز نتنياهو، (الشخص والحزب والمعسكر)، أن لسياسة العدوان والتوسع بنية مجتمعية مشبعة بعنصرية تتاخم الفاشية، وأن رفْض حكومات إسرائيل للتسويات السياسية، تعبير عن نظام استيطاني إقصائي يقتضي مواصلة سياسة الحروب والتطهير العرقي المُخطَّط، ذلك علماً أن التنافس الانتخابي دار أصلاً بين معسكرين، يجمعهما في الجوهر، برنامجاً وممارسة، التمسك بلاءات صهيونية معلنة، هي: لا لحق اللاجئين في العودة، لا للانسحاب إلى حدود 67، لا لوقف الاستيطان وتفكيك الكتل الاستيطانية الكبرى، لا لتقسيم القدس وضم شطرها الشرقي والتخلي عنها "عاصمة أبدية لإسرائيل"، ولا لرفع الحصار عن قطاع غزة قبل نزع سلاح المقاومة، ولا، (وهنا الأهم)، لإبرام "اتفاق نهائي" لا يضمن الاعتراف بإسرائيل "دولة للشعب اليهودي"، ما يعني أن الناخب الإسرائيلي اختار البرنامج الأكثر تعبيراً عن صلف وعنجهية وغطرسة التشبت بنظام "إسرائيل القلعة" المفروضة بالقوة داخل فلسطين، وعلى محيطها العربي وغلافها الإقليمي.
إذاً لا مفاجأة ولا عجب في نتائج هذه الانتخابات، خاصة أن إسرائيل، نخباً وناخبين، مطمئنة إلى رعاية أميركية وتواطؤ دولي يحولان دون إنهاء شذوذ بقائها دولة مارقة فوق القانون، ومحصنة من أي ضغط فعلي يلزمها بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالصراع، بل ومرتاحة كما لم يحصل من قبل، للقائم، وغير المسبوق، من عجز رسمي عربي بنيوي، زاد طينه بلة، إرهاب تكفيري يفتك بالوطن العربي دولاً وجيوشاً ونسيجاً وطنياً ومجتمعياً، لدرجة أن تصبح قضية "محاربة الإرهاب"، لا القضية الفلسطينية، هي "قضية العرب الأولى"، بل، ولدرجة أن تصبح إيران، لا إسرائيل، هي "عدو العرب الأول"، ناهيك أن الاحتلال الإسرائيلي صار، إلى درجة كبيرة، "احتلالا بلا كلفة"، ارتباطاً بضعف العامل الوطني الفلسطيني والتباساته ومأزقه البنيوي، الناجم عن استمرار تعاقد التفاوض العبثي، واستفحال الانقسام الداخلي المدمر، كانقسام عمودي طال أمده، ولا تتوافر إرادة سياسية جادة لإنهائه.
عليه، وبعيداً عن التفاصيل، تشكل الحقائق أعلاه جوهر دلالات نتائج الانتخابات الإسرائيلية، ما يضع العرب، والفلسطينيين منهم خصوصاً، أمام محطة لا جديد فيها سوى تجديد التأكيد على أن مواقف إسرائيل النظام لا تتغير بتبدل ألوان حكوماتها، ولا بتقديم التنازلات المجانية المتسرعة التي لم تجنِ ضغطاً أميركياً فعلياً، طال أمد انتظاره قرابة 25 عاماً، لكنه لم يأت، ما قاد إلى تعميق الاحتلال وتعاظم الاستيطان وتصعيد الهجوم السياسي والميداني لتحقيق المزيد من أهداف المشروع الصهيوني، وإلى تآكل البرنامج الوطني واختزاله لدرجة الضغط لقبول مقايضة العودة وتقرير المصير بالدولة، بل ولقبول التفاوض لإقامتها "على أساس حدود 67"، وليس "على كامل حدود 67"، أي بلا "القدس الشرقية" ومع بقاء الكتل الاستيطانية الكبرى، بل والضغط لأن يكون "حل الدولتين" وفق المقاربة السابقة للدولة الفلسطينية، مقابل "إنهاء الصراع" ووضع حدٍ للمطالب والاعتراف بإسرائيل "دولة للشعب اليهودي".   
أما أن يعلن نتنياهو أن دولة فلسطينية لن تقام في ولايته كرئيس لحكومة الاحتلال القادمة، فأمر طبيعي، ولا يعني سوى أنه القائد والممثل الأكثر فظاظة وصراحة في التعبير عن هدف إسرائيل النظام: تعظيم وقائع مصادرة الأرض والاستيطان والتهويد، بما لا يترك متسعاً إلا لإقامة "حكم إداري ذاتي فلسطيني"، صيغة سلفه شامير مقابل صيغة "الحكم الذاتي الإقليمي" التي بلورها الثنائي رابين - بيرس ويتبناها هيرتسوغ كقائد حالي لـ"حزب العمل" و"المعسكر الصهيوني". 
أما سيل الانتقادات الأميركية والأوروبية لفظاظة إعلان نتنياهو، فإنها على أهميتها، لا تتيح الرهان لدرجة تصور أن الإدارة الأميركية ستمارس ضغطاً فعلياً على حكومة نتنياهو لدرجة إجبارها على إنهاء الاحتلال بمظاهره السياسية والاستيطانية والعسكرية والاقتصادية، وتحديد سقف زمني لإقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة على كامل حدود 67. وهذا ليس حكماً مسبقاً، بل حكم يزكيه أن الإدارة الأميركية وأغلب وأقوى حكومات حلفائها الأوروبيين، ما زالت متمسكة بمقاربة مواصلة التفاوض الثنائي لإقامة دولة فلسطينية "على أساس"، وليس "على كامل" حدود 67، بل وما زالت ترفض تحديد سقف زمني للتفاوض.
بذلك يتضح أن الانتقادات الأميركية والأوروبية لنتنياهو، حتى لو بلغت درجة التقريع أحياناً، تستهدف "ضمان عدم سقوط المنطقة في الفوضى"، حسب التعبيرات الرسمية الأميركية، وضمان استمرار تعاقد التفاوض الثنائي المباشر كإستراتيجية أميركية لإدارة الصراع لا حله. 
هذا هو جوهر هدف الانتقادات الأميركية التي ربما تصل إلى حدود اقتراح توسيع "اللجنة الرباعية" لرعاية المفاوضات، لتشمل دولاً عربية، مصر والأردن تحديداً. 
وكل ذلك، وربما غيره من المواقف التي لا تمس جوهر تحكُّم الولايات المتحدة المنفرد بملف القضية الفلسطينية، ما يعني أن الانتقادات الأميركية لنتنياهو مع ما يمكن أن يتمخض عنها من مواقف ملموسة إنما تستهدف أيضاً منع حشر قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في الزاوية لدرجة إجبارها على تطوير خطواتها الحذرة لتدويل القضية إلى حدود التنصل من تعاقد "أوسلو" السياسي والتزاماته الأمنية والاقتصادية، وبناء إستراتيجية سياسية فلسطينية جديدة، تفضي، تقدم الأمر أو تأخر إلى استعادة خيار المقاومة، كسبيل للخروج من الأزمة الوطنية، وتوفير شروط إعادة توحيد الشعب الفلسطيني وإعطاب ديناميات تفكيكه إلى تجمعات بأجندات وأهداف متباينة بقيادات متصارعة.
عليه، لا مناص من الاعتراف بما يكفي من حزم أن هذه هي حدود الانتقادات الأميركية لنتنياهو، (الشخص والحزب والمعسكر)، وأن الرهان عليها أكثر مما يجب، يعني استمرار الفتك بقدرة الشعب الفلسطيني  وحركته الوطنية على تلبية ولو الحد الأدنى من متطلبات واستحقاقات مرحلة ما بعد نتائج الانتخابات الإسرائيلية، بل وتعميق الانقسام الداخلي لدرجة تحويله إلى فصلٍ بين الضفة وقطاع غزة. 
هذا خطر ليس مستبعداً، بل خطر وارد، وينذر بحصوله توالي التصريحات القيادية الصادرة من قطاع غزة، بدءاً بالقول: "التفاوض مع إسرائيل ليس محرماً شرعياً على حركة حماس"، مروراً بالقول: "إسرائيل تريد رفع الحصار عن غزة لكن أبو مازن لا يريد"، وصولاً إلى القول: "حركة "حماس" ليست منغلقة على أي أفكار تطرح عليها بخصوص هدنة مع إسرائيل"... و"إن هناك أفكاراً طرحتها قنوات دولية على الحركة بشأن تحسين الوضع في قطاع غزة مقابل هدنة مع إسرائيل". 
قصارى القول: إن أي تجديد للجري خلف سراب الوعود الأميركية بشأن "حل الدولتين" لن ينجب سوى تأجيل اتخاذ قرارات سياسية وطنية مصيرية باتت مفروضة منذ أيار 1999، وتعميق الأسباب الخارجية والداخلية للأزمة الوطنية الفلسطينية، كأزمة يخص الخروج منها الشعب الفلسطيني بعمومه والقضية الفلسطينية بمجملها، وليس فلسطينيي الضفة وقطاع غزة، فحسب. 
فسياسة الولايات المتحدة، في الجوهر، ما زالت معادية حتى لأدنى الحقوق الفلسطينية، فيما سياسات الاحتلال الهجومية ستزداد شراسة على كل المستويات، والاستيطان والتهويد منها بالذات، في محطة ما بعد الانتخابات الإسرائيلية، وتشكيل حكومة جديدة بقيادة نتنياهو.