الزيارة التي قام بها نائب الرئيس الأميركي السيد جون بايدن هي بالنسبة لنا تحديداً ليست أكثر من زيارة رفع العتب. وكما صرح أكثر من ناطق أميركي فإن الولايات المتحدة ليس لديها أية أفكار محددة حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ـ وعلى ما يبدو ـ فإن أقصى ما سيتم التطرق إليه في هذه المرحلة هو الحديث المكرر والمعروف عن "ضرورة" العودة إلى المفاوضات، وعن "أهمية" حل الدولتين، وقبل ذلك وقبل كل شيء البحث عن سبل التوصل إلى "تهدئة" سريعة لوقف حالة التدهور القائمة. وليس من المستغرب ولا المستبعد أن يتم الحديث عن الاستيطان كعقبة في وجه العودة إلى المفاوضات.
وكما يقولون إذا عرف السبب بطل العجب. السبب في هذه "السلبية" الأميركية معروف ومشخص. فاهتمام الإدارة الأميركية في مراحل التمهيد للانتخابات ينصبُّ دائماً على كسب التأييد الإسرائيلي، أو العمل بكل الوسائل لمنع التدخل المباشر لإسرائيل في نتيجة الانتخابات، وهو الأمر الذي يضع إسرائيل دائماً في موقف القوة، وفي موضع القدرة على الابتزاز، وهو ما يؤكد على أن إسرائيل (كما أكّدنا على هذه المسألة دائماً) هي عامل داخلي في المعادلة الأميركية، وليس مجرد حليف خاص ومميز، وأنها ـ أي إسرائيل ـ حليف خاص بسبب هذه المكانة في هذه المعادلة بالذات.
وخلاصة القول هنا فإن الإدارة الأميركية والتي لا ترى سبباً وجيهاً واحداً يلزمها بالضغط للذهاب إلى حلٍّ متوازن لم يعد أمامها سوى الانسحاب من هذا الملف (دون إعلان) والتفرغ للملفات الأخرى في منطقة الإقليم بأقل درجة ممكنة من "التورط" المباشر بها، والاستمرار بإدارة أزمات الإقليم على القواعد والأسس المعروفة بحماية أمن إسرائيل وضمان تدفق النفط، وكل ما عدا ذلك يأتي في الدرجة الثانية، وربما الثالثة والرابعة من الأهمية، ومن سُلّم الأولويات.
الشيء الوحيد والجديد في جعبة الولايات المتحدة هو المقاربة التي باتت على طاولة هذه الإدارة على صعيد الاستيطان. هناك أفكار جديدة مفادها وفحواها يتعلق بالتفريق ما بين نوعين من الاستيطان: • استيطان داخل الكتل الاستيطانية والتي (حسب رأي الإدارة الأميركية) سيتم "ضمّها" إلى إسرائيل في حالة التوصل إلى حلول ومن ضمنها مسألة الحدود.
المقاربة الأميركية الجديدة تقضي بأن تستمر إسرائيل في البناء الاستيطاني كما تشاء، وأن لا يتم إلزام إسرائيل باتخاذ أية إجراءات من شأنها تقييد "حرية" التوسع الاستيطاني فيها.
• استيطان خارج هذه الكتل، وهذه هي المستوطنات التي يجب أن يتوقف فيها التوسع الاستيطاني بما في ذلك الأحياء العربية في القدس الشرقية. على الرغم من الصعوبة الكبيرة في قدرة أحد في هذا العالم على "إقناع" إسرائيل بهذه المقاربة الأميركية، والتي تحدث عنها دنيس روس في إحدى مقالاته الأخيرة، إلاّ أن الإدارة الأميركية "تأمل" في أن يكون القبول الضمني بها المدخل الأهم والأكبر للعودة إلى طاولة المفاوضات.
الجهود التي يمكن أن تشارك بها الولايات المتحدة هي جهود العودة إلى المفاوضات وليس جهود مضمونها أو قاعدتها القانونية أو الأرض التي يجب إعادتها أو مواعيد الانسحاب عنها... كل ذلك بالنسبة للولايات المتحدة ليس له أي أهمية في الظروف الراهنة وكل الأهمية تكمن في استعادة المناخ المناسب لعودة المفاوضات.
لهذا كله فإننا نشهد تركيز الولايات المتحدة على إجراءات استعادة "الثقة"، وإلى خلق مناخات مساعدة على العودة إلى طاولة المفاوضات.
ولأن اهتمامات الولايات المتحدة هي على هذه الدرجة من "التواضع"، ولأن الولايات المتحدة ليست بوارد الضغط على إسرائيل في هذه المرحلة بالذات، وهي ليست معنية بهذا الضغط فعلياً في أية مرحلة سابقة أو لاحقة، فإن زيارة السيد جو بايدن ليست أكثر من مجاملة سياسية لأنها زيارة تقع في الواقع خارج دائرة الاهتمام الأميركي المباشر.
ما يمكن أن تصل إليه الحدود القصوى للمقاربة الأميركية هو حصول إسرائيل على اعتراف مسبق بفكرة تبادل الأراضي، واعتراف مسبق بالتالي على "أحقيّة" إسرائيل في ضم ما تسميه هي بالكتل الاستيطانية الكبرى، واعتراف مسبق بشرعية كل الاستيطان الذي تم في القدس الشرقية ما عدا بعض البؤر الصغيرة في الأحياء الفلسطينية الخالصة، وهو ما يشكل تكريساً مسبقاً لفكرة المشاركة "الفلسطينية" في إدارة بعض الأحياء السكنية من زاوية الخدمات البلدية أو ما هو في عدادها... وكل ذلك مقابل "تجميد" الاستيطان في نسبة تقل عن 20% من مجموع المستوطنات، ودون أن يرتبط كل ذلك بأي شيء يتعلق بالحل وأسسه ونتائجه ومواعيد تنفيذه.
إذن، إذا ما وصلت الإدارة الأميركية في مرحلة ما إلى طرح هذه المقاربة على الطاولة فإنها ليست أكثر من التفافة جديدة هدفها تحقيق مكاسب إسرائيلية استراتيجية كبيرة مقابل "مكاسب" فلسطينية صغيرة بثمن باهظ وبثمن لا يتعلق بجوهر الصراع وبجوهر الحقوق والأهداف الفلسطينية وإنما بمدخل التفاوض عليها. وهذا هو العجب في زيارة رفع العتب التي يقوم بها نائب الرئيس الأميركي لبلادنا.