حين يصبح التحريض ضد الاحتلال عالمياً ، أو كيف فقد نتنياهو صوابه

كاتب
حجم الخط

لا اعرف إن كان أحد من حاشية او مستشاري هذا الرجل قد همس في أذنه او سيفعل، ليقول له كفى مواصلة هذا الهراء كالأسطوانة المشروخة بالحديث عن التحريض. ولكن ما ندركه نحن على المقلب الآخر ويثير استفزازنا وربما شعورنا بالغضب الممزوج بالرثاء على الحال التي وصل اليها، هي الإهانة التي يوجهها لنا نحن الشعب الفلسطيني من حيث يدري او لا يدري، حين يصورنا كمجرد قطيع لم نتجاوز بعد مرحلة القطع المعرفي على مستوى الوعي التاريخي مع العصور البدائية، وبالتالي النظر الى الفلسطينيين بوصفهم أناسا لا يملكون أي وعي أو إدراك بشأن مصالحهم الحيوية والمباشرة، وانهم تجاوزوا منذ زمن المسيح ومقولته التحريضية المباشرة في ذلك الزمن "انه ليس بالخبز وحده يحيا الانسان". 


وانه بهذا الاستغفال للعقول يجردنا او ينزع عنا غريزتنا الفطرية الإنسانية في التوق الى الحرية، وحيث لا يمكن للناس ان يشعروا انهم احرار بينما شعب آخر يستبعدهم ويحتل بلادهم، كما قال له الأمين العام للأمم المتحدة علناً قبل أسابيع وقد ضاق ذرعاً هو الآخر من هذا الاستغفال الوقح والفظ بعقول العالم، طالما ان الفطرة الإنسانية لبني البشر هي التي تملي عليهم، وقد أغلقت أمامهم كل الأبواب الأخرى البحث عن الخلاص بهذه الطريقة اليائسة.


لقد كان التحريض يا بنيامين نتنياهو، ولا نجد سوى هذه الطريقة المدرسية لإفهامك المسألة، او لنقل لك ان وسيلتك مبتذلة جزء لا يتجزأ من دعوات الرسل والأديان في الماضي، حينما كان الناس والبشرية لا يزالون يعيشون في عصور اقل تنويراً، وكان هذا التحريض في عصور الظلام أداة من أدوات مفكرين عظام لا زال التاريخ يخلد أسماءهم أرادوا نقل البشرية من هذه الأزمان الى عصرنا الحالي الأكثر تنورا وحداثه ومدنية. لكن حتى في عصرنا الحالي فإن هذا التحريض كان ملازماً لتطور الأحزاب السياسية والصراع الحاد، الذي رافق الحياة الاجتماعية والسياسية على مدى القرنين الماضيين، أي منذ الثورة الفرنسية بين الأيديولوجيات الاشتراكية والليبرالية والفاشية والنازية. وقد انعكس كل ذلك في ظهور الزعماء الخطباء وازدهار الخطابة نفسها والصحافة، والذي ترافق كل ذلك مع صعود الشعور القومي والهويات العرقية والإثنية.
لكن يا بنيامين نتنياهو ما كان ذلك ضرورياً الا لأنه كان جواباً على واقع كان لا يزال فيه الوعي التاريخي او المطابق قاصراً على نخب سياسية وفكرية، ولم يكن وعي الجماهير قد بلغ حد التمييز بين الحق والباطل الخير والشر في هذا الالتباس الذي يكتنفه الغموض، في مرحلة كانت تحتاج  زعيماً ملهماً وخطيباً محرضاً وحزباً من الثوريين المحترفين وصحيفة تكون بمثابة منفاخ الحدادة، وهو ما سيجد صداه أخيراً مع نشوء حركات التحرر ضد الاستعمار. 


ويمكن في الحالة الفلسطينية تلمس اثرها بوضوح في مهاد انطلاقة حركة فتح والثورة الفلسطينية، التي ستحتل الإذاعة دوراً رئيسياً في هذا التحريض حين كانت الثورة الفلسطينية لا تزال في المرحلة الدعوية او التعبوية، وحيث الثورات في مهاد طفولتها او صدر دعوتها تتشابه مع الأديان.


فما الذي تبقى هنا من "صوت فلسطين صوت فتح والثورة الفلسطينية" المجلجلة والعاصفة في نهاية الستينات وأوائل السبعينات بأصوات مريد البرغوثي والطيب عبد الرحيم وغيرهم؟ والجواب، اختفت نبرة دعائية ثورية تحريضية حماسية وحلت مكانها نبرة واقعية هادئة اكثر احترافية، ولكن في سياق متواصل من الحفاظ على نزعة تبشيرية في مقاربتها التعبيرية في الأداء تتفق مع الواقع، والتحول الذي طرأ على الخطاب الفلسطيني نفسه. وهكذا في النسخة الراهنة لجيل من المهنيين الفلسطينيين تحل المتابعة الخبرية والتقارير والمقابلات مكان الخطب النارية على طريقة المدرسة السعيدية لصوت العرب.


لقد احدثوا تحولا في خطابهم السياسي والإعلامي، ولكن بقي الاحتلال كجدار صلب يئس الفلسطينيون بأجيالهم المتعاقبة ان يروا له نهاية، في نهاية النفق الذي تحدث عنه ياسر عرفات، وبدلا منه هذا الممر لخلاصهم في الاستعارة الرمزية ولكن التبشيرية، احترف الفلسطينيون حفر هذه الأنفاق كما هو الحال في غزة، كشريان للحياة في التغلب على الحصار وكوسيلة مبتكرة دفاعية احتماءً من تفوق إسرائيل الجوي والاستخباراتي. ومن غرائب الأمور او هذا الواقع حين تحول النفق نفسه بالمعنى المادي هذه المرة وليس الرمزي مصدراً للتمكين والقوة يقلق راحة إسرائيل.


ومواصلاً السير على نفس الخطى والتقاليد الفظة والخشنة التي سار عليها المستعمرون الغزاة في كل العصور السالفة، دون ان يلقي بالا الى مشاعر وطموحات الشعب الذي يستعبده، ملوحاً طوال الوقت بالعصا في نهاية كل اجتماع يعقده لما يسمى بالمجلس الوزاري المصغر وهي الاجتماعات التي لا تنتهي، فإنه ويا للسخرية استنفد كل ما في جعبته من أصناف هذا العقاب الجماعي الأبدي، انتبه مؤخرا الى وسائل الإعلام الفلسطينية في لحظة أخرى من الطيش وعدم التبصر دون ان يسأل نفسه عن المصادر التي تستقي منها وسائل الإعلام الفلسطينية الأخبار، المكدرة للنفس التي توردها صباح ومساء كل يوم، وان هذا المصدر هو الأفعال المشينة التي يقوم بها هو نفسه وقواته وقطعان مستوطنيه، وهي بالأخير المحرض الأكبر والوحيد في إثارة غضب الفلسطينيين ومد هذا الغضب بالوقود.


إنها لحظة فقد الصواب التي لا تني تتكرر عبر التاريخ، حين لا يستطيع المحتل المستعمر الذي يعتد طوال الوقت بجبروت قوته، ان يصدق او يقتنع بان هذا الشعب المسكين والضعيف يمكنه ان يثور على جلاده، وان يجعله في لحظة من اللحظات عاريا ومسخرة او مجرد نمر من ورق كما كان يقول ماوتسي تونغ. 


وإذ تبدو بالمقاييس المهنية والواقعية ان الصحافة الإسرائيلية في دولة الاحتلال نفسها، اكثر جرأة في تحليل وفضح هذا الإفلاس في مواصلة الرهان على القوة، والإجراءات القمعية بديلا عن الحلول السياسية، وهي المقاربة التي كان في وقت مبكر ابان فشلها أبو الاستراتيجية التقليدية كلاوزفيتز. فأنه جريا على عادة السياسيين السلطويين من غير ذوي الاستقامة، ديغول مثالا وحتى رابين فإنه لا يريد ان يعترف بحقيقة انه بمواصلته هذا الهراء عن التحريض منفرداً، انما يقوم بخداع نفسه أولا وليس خداع العالم أو تضليله، بينما تبدو الحقائق واضحة إلى حد السطوع لدى كل هذا العالم.


فكل بلاغة كلمات الأرض لا يمكنها ان تدفع شاباً قرر منفرداً الموت والإلقاء بجثته أمام حاجز يضم جنوداً مدججين بالسلاح، شيء واحد يدفعه الى ذلك حين لا يكون في هذا الواقع ما يستحق الحياة، وحين يصبح الموت وفلسفة الاستشهاد والفداء والتضحية هي الممر او المعبر الوحيد لاستعادة هذه الحياة، أي "ليكن في موتكم حياة" كما يقول الإمام علي كرم الله وجهه، وهي جوهر فلسفة الفداء عند السيد المسيح. 


هل فقدتم صوابكم إذن؟ خاطب هو نفسه فاقد الصواب أعضاء الكنيست العرب من القائمة المشتركة لتحفظهم اعتبار حزب الله منظمة إرهابية، لكن أليس جو بايدن هو الذي قال أمام نتنياهو انه لا يمكن لإسرائيل العيش طوال الوقت على حد السيف؟ واذا كان بمقدور الأحمق ان يرفض لقاء باراك أوباما، ويقول لا للمبادرة الفرنسية والمؤتمر الدولي. فأن الجواب واضح اليوم وقد بدأت ملامحه او خطوطه العريضة في تسريبات الصحافة الأميركية، وفي اشتداد حبل المقاطعة على جنوب إفريقيا العنصرية الجديدة. 


وما يبقى فعليا من ثرثرات الرجل عن تحريض أبو مازن عليه، ان هذا التحريض اصبح يتسع ليشمل العالم الذي بدأ الآن في استعادة صوابه ووعيه لما يحدث، وقرر وقف إسرائيل والاحتلال عند حدودها في العام 1948 نقطة وأول السطر.


والا بماذا نفسر تصريحات نادرة وحتى غير مسبوقة في الأعراف والتقاليد الدبلوماسية بين الرؤساء، والتي ادلى بها الرئيس الأميركي باراك أوباما وكشف فيها عن انطباعاته ورأيه الشخصي ببنيامين نتنياهو، واصفاً إياه بالشخص المتكبر والمشلول والخائف، دون ان ينتظر تضمين هذه الانطباعات في مذكراته بعد مدة انتهاء رئاسته ومغادرته البيت الأبيض. 


ويتضح مما كشف عنه أوباما ان هذا الرجل المتعجرف ولكن الأحمق حاول في لقاء بينهما في البيت الأبيض عام 2011, إعطاء أوباما محاضرة بطريقة لا تخلو من الأستذة المهينة لشخص أوباما، الأمر الذي اضطر هذا الأخير لتوبيخه ووقفه عند حده. فما هي الرسالة التي أراد أوباما إرسالها الآن وفي هذا التوقيت للشعب الإسرائيلي ونخبه السياسية بل ولقادة العالم؟ أو ليس هو التحريض الحقيقي ولكن الإيجابي، وقد طفح الكيل من أن هذا الرجل لا يصلح للقيادة وان حملة تدفيعه الثمن ولا أقول شيطنته، ونزع الغطاء عنه قد بدأت. ولكن مع فارق في خصومتنا له أنها ليست شخصية، وان الرسالة التي واصل أبو مازن توجيهها للإسرائيليين كانت ولا زالت الدعوة الى السلام الحقيقي الذي يشترط إنهاء الاحتلال. والذي يحدث الآن ان الرجل الذي لم يأت بالذوق يواجه دفع العالم وعلى رأسه أميركا له من قفاه ومن دون أي اعتبار له.