يقول المثل الشعبي "العتب على قدر المحبة". في العلاقة بين فلسطين ومصر يمكن للمثل ان يتسع ليكون العتب على قدر المحبة وعلى قدر الأمل والتطلع وعلى قدر الدم الذي امتزج على ارض المعارك الوطنية والقومية، وعلى قدر دكتاتورية الجغرافيا وعمق التاريخ ورحابته، وأيضا على قدر العشم. وإذا كان لمصر موقع خاص في وجدان الشعب العربي بشكل عام وتطلعاً لدورها القيادي في عموم المنطقة، فان هذا الموقع وهذا التطلع يصبحان اكثر خصوصية وتميزا مع فلسطين وقضيتها وشعبها ونضاله الوطني.
لم يكن من باب المجاملة، ولا كان عفو الخاطر، تكرار الرئيس الشهيد عرفات القول "انا مصري الهوى". كان بذلك يعبر عن اكثر من جيل فلسطيني ممن صنع هواهم المصري، إضافة الى ما تقدم، تحصيلهم الجامعي، وتبلور شخصياتهم العملية والوطنية في الأجواء المصرية المنتشية بالنهضة الوطنية الريادية والعلمية والأدبية والثقافية والفنية. (في سنة 1967 كان عدد الطلاب الفلسطينيين الدارسين في مصر 24000). من هذا الموقع وعلى أرضيته يكون العتب..... لكن التحية الحارة تسبق العتب. التحية الممزوجة بالفخار لبرلمان الشعب المصري العظيم الذي لم يقبل ان يكون من بين أعضائه مطبّع استعراضي، فقام بإسقاط عضويته.
البرلمان عبّر بذلك عن وجدان وضمير الشعب المصري وموقفه الأصيل في رفض التطبيع مع العدو الصهيوني ودولة احتلاله بكل أشكاله ومستوياته، وبغض النظر عن ظروف واضطرارات دولته والتزاماتها الرسمية، وبدون تعارض معها. العتب الأول، هو إعادة السفير المصري لمزاولة عمله في دولة الاحتلال، بعد غياب دام حوالي ثلاث سنوات. صحيح ان هذا الامر يشكل واحدا من تعبيرات السيادة المصرية، وان هناك اتفاقية تنظم علاقة الدولة المصرية مع دولة الاحتلال، وان التبادل الدبلوماسي واحد من بنودها. ولكنه صحيح ايضا ان بقاء السفير (اي سفير) في سفارته يشكل تعبيرا عن حالة الانسجام والرضا بين الدولتين، وان غيابه عنها، بقصد وقرار، يعبر عن الخصام وعدم الرضا بينهما.
كما ظل سحب السفير ممارسة سياسية يتم اللجوء إليها للاحتجاج على موقف او مواقف تتخذها الدولة التي يسحب منها السفير او أدانة ورفضا لممارسات معينة تقوم بها. سحب السفير المصري وتغييبه ثلاث سنوات كان تعبيرا عظيما عن رفض مصر وإدانتها للممارسات الاحتلالية العدوانية بأشكالها المتعددة ضد الشعب الفلسطيني. من الصعب فهم او تفسير وتبرير إعادة السفير في وقت تشتدّ فيه اعتداءات دولة الاحتلال ويتغول استيطانها ويطغى الاتجاه نحو اليمين الفاشي العنصري ونحو دولة الأبارتهايد في كل مكوناتها السياسية والمجتمعية. وفي وقت يتنامى طوق العزلة الدولي على دولة الاحتلال.
والاهم في وقت يخوض الشعب الفلسطيني وشبابه في الطليعة هبة شعبية شاملة ضد استمرار الاحتلال واعتداءاته على الحقوق الوطنية والإنسانية وعلى المقدسات الدينية. ان عودة السفير، من جهة أُخرى، تشجع اتجاهات تتنامى نحو التطبيع مع دولة الاحتلال تقوم به بعض الأطراف بشكل سري او بتعبيرات تتسلل بتزايد الى العلن. ولأن دولة الاحتلال وعت كل المعاني المذكورة جاء ترحيبها بعودة السفير احتفاليا واستثنائيا. العتب الثاني، حول سياسة مصر في ادارة معبر رفح. بداية، لا يجوز لاحد مناقشة حق الدولة المصرية في صيانة امنها الوطني واتخاذ ما تراه ضروريا من إجراءات دفاعا عنه.
ولا يمكن لأي وطني فلسطيني وعربي إلا أن يكون حريصا على مصر واستقرارها ونهضتها وتقدمها، وعلى امنها وسلامة مواطنيها وحدودها. ولا يمكن لكل ذي سمع وبصر الا ان يرى ويسمع حجم المخاطر والمؤامرات والاعتداءات الدموية التي تتعرض لها مصر من قوى إرهابية داخلية، ومن تدخلات ومؤامرات خارجية. ولا يمكن لكل ذي بصيرة الا أن يعي ويدرك الإهداف وراء ذلك، ان بهدف السعي لوقف عجلة الأمن والاستقرار والتقدم على المستوى الداخلي، وان بهدف إعاقة حركة مصر باتجاه استعادة دورها الطبيعي في قيادة عموم المنطقة. العتب هنا، ان دولة مصر بكل ما لها من إمكانات وما تمتلكه من قدرات وخبرات قادرة اذا ما أرادت وصممت، على وضع ترتيبات لمعبر رفح افضل مما هو قائم.
ترتيبات تحفظ لمصر امنها وسلامة حدودها، وتؤمن لأهل القطاع حق وحرية التنقل، وترفع عنهم حالة الاحتجاز، بكل ما تعنيه من مآسي حياتية واجتماعية وصحية وتعليمية و... بدون ذلك، الناس غير قادرة على تفهم موقف الدولة المصرية، وغير قادرة على قبوله. السبب الذي تتعذر به مصر هو علاقة التشاحن مع حركة حماس، السلطة الواقعية الحاكمة والمسيطرة على قطاع غزة، بوصفها فرعا من حركة الإخوان المسلمين. واتهامها بتقديم الدعم والتدريب والمأوى لحركة الإخوان في حربها على الدولة المصرية، وفي العمليات الإرهابية الدموية التي تنفذها ضد اهداف مدنية وحيوية في عموم الارض المصرية.
لكن في واقع الحال، فان ثقل الإجراءات على المعبر وتأثيراتها الخانقة يقع، بالدرجة الأولى والأساسية، على اهل القطاع العاديين الذي لا يكنّون لمصر وأهلها الا الحب والحرص والأمل. حركة حماس ترفض تنفيذ الشرط المصري، والطلب الفلسطيني، ان يكون المعبر حقيقة وفعليا بادارة ومسؤولية خالصتين للسلطة الوطنية الفلسطينية لتعود الترتيبات والإجراءات وحركة التنقل والعبور على المعبر الى وضعها الطبيعي. حماس ترفض ذلك من واقع الانقسام وعلى مذبح تمسكها باستمرار سيطرتها وحكمها المطلقين على قطاع غزة بجميع جوانبها وتعبيراتها. هل سيطول الانتظار حتى يزول الانقسام، او على الأقل، حتى الوصول الى حلول جزئية في أمور ضاغطة تريح الناس في أساسيات حياتها وكرامتها ؟ ام ان القدرة والخبرة المصرية، في حضن الحكمة والمسؤولية، ستسبق الى ترتيبات افضل على المعبر؟