ماذا وراء قرار الانسحاب الروسي؟

jccx
حجم الخط

بدت الأمور وكأنها مباغتة تماماً. فجأةً أعلنت المعارضة حضورها للمؤتمر، وفجأةً بدأت المساعدات بالوصول المنتظم إلى المناطق المحاصرة.

وفجأةً أعلن الرئيس الروسي عن قرار ببدء الانسحاب الجزئي من سورية، باعتبار أن القوات الروسية أنجزت الجانب الجوهري من مهمتها في سورية! كيف يمكن فهم هذا القرار؟ وما هي خلفيته وأبعاده؟! والأهم، ما هي الآثار التي ستترتب عليه في حال استكماله؟ قبل كل شيء فإن القيادة الروسية حرصت من خلال الإعلان عن هذا الانسحاب على التأكيد على جزئيته أولاً، وعلى تدرُّجيته ثانياً (من 5ـ6 أشهر)، وعلى بقاء القواعد القديمة الجوية والبحرية، مع إضافة ما يلزم لحمايتها من دفاعات جوية ومن قوات خاصة ومن أسلحة مختلفة ثالثاً. إذن قرار الانسحاب مشروط بصورة محكمة بتقدم الحل السياسي ومرتبط به.

خلال الستة أشهر القادمة سيتبين للقيادة الروسية فيما إذا كان هناك ضرورة لبقاء هذا القدر أو ذاك من القوة العسكرية الروسية، وسيتبين لها فيما إذا كانت العمليات العسكرية الروسية ستخفض بدرجات معينة أم لا، وفيما إذا كانت هذه العمليات ستتحول إلى أشكالٍ جديدة وفي ضوء التقدم الذي أحرزته القوات السورية النظامية، أم ان الأمر يحتاج إلى مزيد من القوة لفرض سيطرة هذه القوات على مناطق جديدة ـ وفي أغلب الظن ـ على حساب المناطق التي لا زالت تسيطر عليها كل من «داعش» و»النصرة»...؟ الشيء المؤكد أن الحديث الذي تثيره بعض أوساط المعارضة السورية حول «خلافات» بين موسكو ودمشق على بقاء الأسد هي مجرّد أوهام ليس لها أي أساس من الصحة. والشيء الأكيد، أيضاً، هو أن الأحاديث عن دور وتأثير «الأزمة» الاقتصادية في روسيا في خلفية القرار الروسي هو، أيضاً، خارج المنطق السياسي... لماذا؟

السبب هو أن القيادة الروسية هي كما تثبت الأحداث على مدار السنوات الأخيرة هي قيادة عاقلة ومتعقّلة ولم يثبت أن روسيا قد جازفت أو غامرت بقضايا كبيرة كالأزمة السورية بكل أبعادها الإقليمية والدولية. كما أن القيادة الروسية عندما أخذت قرار التدخل العسكري لم تكن في أوضاع اقتصادية أفضل من أوضاعها الحالية ولم تكن أسعار النفط تختلف بصورة كبيرة عن أسعار اليوم، وكميات الذهب المستخرجة والمخزّنة ما زالت على حالها، إن لم تكن اليوم أفضل مما كانت عليه أثناء اتخاذ القرار، ثم إن تكلفة الحرب في سورية ليست باهظة كما تحاول أن توحي لنا بعض الأوساط السياسية والصحافية الغربية...!

هذا فإن الجانب الاقتصادي ومهما كان له من تأثير أو دور في خلفية القرار الروسي فهو لا يعدو كونه ثانوياً في كل الأحوال ومطلقها. إذن القرار الروسي جاء في سياقات أخرى ولأسباب مختلفة. أغلب الظن أن روسيا أرادت من هذا القرار أن تنزع من أيدي المعارضة السورية كل الذرائع لإفشال مؤتمر جنيف، وخصوصاً المعارضة التي تقودها المملكة العربية السعودية بحيث تتحول السعودية من دولة «معرقلة» للحل إلى دولة منخرطة في الحل، وهي (أي روسيا) تعرف وتوقن مدى التأثير السعودي على المعارضة، ومدى وأهمية الدور السعودي في الوصول إلى حلول وسط للأزمة السورية. وأرادت روسيا من خلال هذا القرار ان تبدو وكأنها ستلزم حلفاءها بنهج البحث عن حل سياسي، حيث رحب النظام من الناحية الرسمية بالإعلان الروسي، كما رحبت إيران، كذلك أعلنت مختلف الجهات الدولية الترحيب بهذه الخطوة، وهو الأمر الذي يخلق جواً لمصلحة روسيا وحلفائها في الاطار الدولي والإقليمي على حدٍ سواء. كما أرادت روسيا أن تحرج الغرب فيما يتعلق بأية شروط «تعجيزية» قد يطرحها، وخصوصاً فيما يتعلق بالمرحلة الانتقالية وحصر الحوار في دائرة معينة بعيداً عن التطيّر الذي تطرحه بعض فصائل المعارضة.

ردود الأفعال الدولية كما شاهدناها حتى الآن تدل على أن القرار الروسي هو قرار مدروس إلى أبعد الحدود، وهو قرار برسم التطورات وحقيقة الانسحاب منوطة بمدى تقدم العملية السياسية في سورية. استطاعت روسيا ان تغيّر معادلة الصراع فيها وعليها عندما تدخلت عسكرياً، وهي الآن تلعب الدور المبادر والرئيسي في الحل السياسي لها. لم يعد بإمكان أحد أن يدافع عن المنظمات الإرهابية على الساحة السورية، وإذا ما حُصر أمر هذه المنظمات في كل من «داعش» و»النصرة» فهذا الأمر بحد ذاته إنجاز وكل المنظمات التي ترتبط بهذين التنظيمين ستنتهي إلى الحصار والتدمير، وهو أمر يصبُّ في نهاية المطاف في مصلحة الرؤيا الروسية.

روسيا تعيد دورها وتموضعها على خارطة المنطقة عَبر البوابة السورية، وهي اليوم ما زالت في بداية طريق طويل من إعادة التموضع هذا، وهي قادرة عَبر نوافذ كثيرة أن تعيد لنفسها الدور الذي فقدته بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ومن يعتقد أن روسيا ستقبل بأقل من هذا الدور الجديد تحت أي ظرف من الظروف فهو على ضلال كامل. الولايات المتحدة تنسحب عملياً من التورط المباشر في أي ملفٍ من ملفات المنطقة، والاتحاد الأوروبي ما زال أضعف من أن يضطلع بدورٍ أكبر بكثير من دوره الحالي، والصين لها نهجها الاقتصادي الخاص لدورها على المستوى الدولي، وروسيا هي الوحيدة المؤهلة لملء الفراغ الناشئ موضوعياً عن هذه الغيابات.