ربما لأول مرة، يجرؤ مرشح رئاسي أمريكي جمهوري أو ديمقراطي على تحدي ما يسمى «بالحكمة التقليدية» في الانتخابات الرئاسية، وأن يكون محايداً في الصراع العربي الفلسطيني - الصهيوني. فقد صمد ترامب، أثناء إحدى المناظرات أمام أسئلة المحاور، ومزايدات كل من ماركو روبيو وتيد كروز اللذين بالغا في تأييدهما المعهود للكيان الصهيوني، ووصف الصراع بأنه قضية تتعلق «بالإرهاب» (الفلسطيني بالطبع من وجهة نظرهم).
قال ترامب: إن أحد الأهداف التي يصبو إلى تحقيقها حال وصوله للرئاسة هو «تحقيق السلام بين «إسرائيل» وجيرانها»، وهو لا يعتقد أن هذا يمكن أن يتحقق بتصنيف طرف بالخيِر والآخر بالشرير. ورغم تأكيده أنه موالٍ تماماً للكيان، إلا أنه قال: إن على المفاوض ألا يتبنى موقف طرف ضد آخر، وبهذا يكون قد غرد خارج سرب الجمهوريين، وقد تُفتح عليه النار من اللوبي المؤيد للكيان، ويخسره بعض أصوات الإنجيليين الذين يؤيدونه.
لقد اشتبك ترامب في المناظرة التلفزيونية قبيل عقد الانتخابات التمهيدية في 12 ولاية بما يسمى «يوم الثلاثاء العظيم» مع السيناتور ماركو روبيو، الذي قال «إنه عندما يتعلق الأمر ب«إسرائيل» لا توجد منطقة حيادية» و«أن «إسرائيل» عرضت على الفلسطينيين صفقات جدية، لكنهم الطرف الذي لا يمكن الوثوق به»، مضيفا «أن الفلسطينيين يعلمون أطفالهم في عمر الرابعة، بأن قتل اليهود أمر عظيم، وأن الجيش «الإسرائيلي» يدافع عن نفسه أمام صواريخ الفلسطينيين وإرهابهم»، على حد زعمه.
هجوم روبيو كان متوقعاً بالطبع، فقد أيد اللوبي الصهيوني ترشحه للكونغرس، كما تعهد المليادير اليهودي شلدون أدليسون بدعم حملته بملايين الدولارات، وهي نقطة أخرى يستخدمها ترامب ضد منافسيه، وبأنه لن يخضع لإملاءات أي لوبي، لأنه يمول حملته من أمواله. من ناحية أخرى، تعهد السيناتور كروز بنقل السفارة الأمريكية من «تل أبيب» إلى القدس حال انتخابه.
موقف ترامب «الحيادي» - إن جاز القول مجازاً - من القضية الفلسطينية، يتناقض بوضوح مع موقفه ضد المسلمين، حين قال: إنه سيوقف دخولهم مؤقتاً إلى الولايات المتحدة إلى حين إيجاد طريقة للقضاء على تنظيم «داعش». كما كان متوقعاً في انتخابات «الثلاثاء الكبير» خسارة ترامب في معظم الولايات ال 12 التي جرت الانتخابات فيها، لكنه نجح في معظمها، هذا يقود إلى التساؤل: ما السر في ذلك؟
في محاولة الإجابة عن التساؤل، قد تختلف الاجتهادات، لكن اثنين لن يختلفا على أن العلاقات الأمريكية مع الكيان قائمة على أسس استراتيجية، مثبتة في ورقة الضمانات الاستراتيجية الأمريكية، التي قدمها الرئيس السابق جورج بوش الابن للكيان، وقرأها شارون من على منبر مؤتمر هرتزيليا الرابع، عام 2004. ذلك بعد الخطة التي أعدتها الولايات المتحدة لحل الصراع العربي - الصهيوني وعُرفت ب «خريطة الطريق». آنذاك قدم الكيان 14 اعتراضاً على الخطة. تعهدت واشنطن في إجابتها عن الاعتراضات (من خلال الورقة) بعدم الضغط على الكيان لقبول أي حل لا يقبله.
أيضا، فقد كشف أحد مستشاري الرئيس أوباما في عام 2010 عن: أن الرئيس الأمريكي الحالي، سلم نتنياهو ورقة ضمانات جديدة أخرى، تتألف من شقين: سري يتضمن قضايا سرية في غاية الخطورة، ولا يُكشف عنها وتتعلق بمجموعة خطوات ستتخذها الولايات المتحدة، ارتباطاً بالمتغيرات الإقليمية الجديدة، حيث سيتم تزويد الكيان بكل مستلزمات درء الأخطار المستقبلية على أمنه. وآخر علني يتكون من ال 14 نقطة. النقاط المتعلقة بالموضوع الفلسطيني - «الإسرائيلي» تؤكد بما لا يقبل مجالاً للشك، اعتماداً أمريكياً لمواقف الكيان إن بالنسبة للمستوطنات الكبرى التي ستُضم إلى دولته في أي حل دائم، بما فيها المستوطنات الكبرى في محيط القدس، أو بالنسبة إلى الترتيبات الأمنية، التي تحقق لدولة الكيان كل مطالبها الأمنية في مرحلة الاتفاق الدائم، وبشكل خاص الترتيبات الأمنية المتعلقة بالانتشار «الإسرائيلي» في منطقة غور الأردن والمنطقة الفاصلة التي سيتم إنشاؤها بين حدود الدولة الفلسطينية المستقبلية والحدود الشرقية للكيان الاحتلالي في منطقة الأغوار، كما تؤكد مشاركة أمريكية دائمة في تشغيل محطات الإنذار المبكر، وترتيبات أمنية متعددة لصالح الكيان، وترتيبات تتعلق بالمعابر الحدودية الفلسطينية مع العالم الخارجي.
ترامب (إذا ما فاز)، لن يتجرأ أن يكون أقل من غيره من الرؤساء الأمريكيين، إن في الولاء المطلق للكيان، أو في عدم ممارسة الضغوط عليه. دعونا لا ننسى الخطاب الوداعي للرئيس أيزنهاور للأمريكيين، والذي تطرق فيه إلى تأثيرات المجمعات الصناعية، وبخاصة العسكرية منها، في القرار السياسي الأمريكي، وقد أصبحت مع الزمن، حاكماً فعلياً وبنسبة كبيرة في أمريكا. تصريح ترامب في تفسيره المنطقي يعود ربما إلى صرعاته وغرائبيته، التي تميز بها في مرحلة يحتاج الأمريكيون فيها إلى صرعات جديدة بعد طول ملل من الخطابات التقليدية المعهودة من مرشحي الرئاسة.
عن الخليج الاماراتية